q

على العكس مما يجري في المجتمعات المتطورة، يتهرّب أصحاب الكفاءات في مجتمعنا من العمل في السياسة لأسباب وحجج قد تكون غير مقنعة، وتبدو بعيدة عن الصواب والواقع، فالعقول والخبرات السياسية تدخل في إدارة دفة السياسة في الدول المتطورة، ويعمل كثيرون في هذا الميدان، ويجعل مهنته محصورة في هذا المجال، ويسعى كي يبدع ويتطور ويؤدي عمله بأفضل الوجوه حتى يكسب أصوات قبول الناس وتأييدهم له، فيكسب بذلك أصواتهم الانتخابية المهمة له حتى يكون عنصرا فاعلا في السياسة بصورة مستدامة.

ولابد أن تكون هنالك أسباب تقف وراء ابتعاد الناس عن السياسة، وهي في الحقيقة أسباب ليست بعيدة عن الواقع، فقد أسس السياسيون القدماء قواعد غير سليمة للعمل في هذا الميدان، منها على سبيل المثال أساليب الصراع بين العاملين في السياسة ومنها التصفية والسحل في الشوارع والتسقيط وتشويه السمعة وغياب المنافسة الشريفة، وعدم وجود قواعد ثابتة يعمل في ضوئها السياسيون في هذا المجال في إطار المنافسة الشريفة بدلا من الصراع.

والحقيقة هنالك مؤشرات كثيرة على حقيقة مثل هذه الملاحظات على العمل في السياسة، وخاصة في مرحلة الانقلابات العسكرية، حيث يغيب مبدأ التداول السلمي للسلطة بشكل تام، لهذا يصعد الى الحكم أناس لا خبرة لهم في السياسة، كونهم يستولون على السلطة بالقوة الغاشمة، في حين أن السياسة هي فن العقل والحكمة والذكاء في إدارة شؤون الفرد او الجماعة، بالميدان والمكان والوقت المناسب، فيما يتردد بين غالبية الناس لاسيما البسطاء منهم، بأنها فن الخداع والحصول على المكاسب بأقصر الطرق وأسرعها، بغض النظر عن القيم الاخلاقية والمعايير الانسانية الصحيحة، التي ينبغي أن تتدخل في تحصيل النتائج، ولكن هذا التوصيف لا يمكن أن ينطبق على العمل في مجال السياسة، وليس كل من يعمل فيها يتخلى عن القيم.

على العكس من ذلك، هناك شخصيات محترمة في التاريخ السياسي، تصدت للعمل الدؤوب في هذا المضمار المهم في حياة الشعوب والأمم، لذلك لا يصح الابتعاد عن العمل في مجال السياسة وعدم التعامل مع السياسيين، ولا شك أن هذا السلوك ينطوي على منهج حياتي خاطئ، ونظرة قاصرة، لا يعرف الناس مخاطرها عليهم، ونتائجها السلبية التي ستطول حياتهم، لذا يدفع هذا التطيّر بأصحاب الكفاءات، الى تجنب العمل بالميدان السياسي وترك ذلك لمن لا يجيد التحرك والعمل فيه، أو لمن يستغل عمله السياسي لتحقيق مصالح فردية او حزبية أو عشائرية وما شابه، لذا من الطبيعي أن يملأ الميدان السياسي أناس لا يجيدون السياسة، اذا تخلت الكفاءات عن العمل في هذا المجال، حيث يملأ فراغهم وانسحابهم أشخاص لا يمتلكون الخبرة ولا القدرة على ادارة الشؤون السياسية.

مراقبة عمل القادة السياسيين

من الأهمية بمكان أن لا يُترك المجال لكل من هبّ ودب للتسلل الى السياسة، كونها على احتكاك مباشر بمصالح الدولة والشعب، فالسياسة ميدان لا يختلف عن الاقتصاد أو التعليم أو سواهما، والمجتمع من دون اقتصاد سليم لا يمكن أن يعيش حياة عصرية مرفّهة ومستقرة، ترك الاقتصاد لغير الاقتصاديين سيدمره، وترك التعليم لمن لا يصلح له سيدمره ايضا، هذه البديهيات تنطبق على السياسة، من هنا تأتي أهمية أن تتدخل المكونات الاجتماعية المختلفة في مراقبة العمل السياسي ومتابعته، ولابد أن يكون العاملون في السياسة من ذوي الخبرة والقدرة على العمل في هذا المجال.

من هنا يوجد تركيز على أهمية دفع الكفاءات السياسية الى الصدارة دائما، فالشخصيات الواعية في المجتمع وقيادات النخب، يجب أن يكون لها حضورها في متابعة عمل السياسيين، لاسيما منظمات المجتمع المدني التي ينبغي أن تبقى جهات رقابية ضاغطة بقوة، لكشف الأخطاء السياسية وتسليط الضوء عليها، كذلك ينبغي أن تكون هذه المراقبة مستمرة ودقيقة، وينبغي أن يكون الجميع لهم دورهم في هذا المجال، ولابد من التدخل في انجاز العمل الرقابي على افضل وجه، وتصويب مكامن الخلل السياسي دائما عبر وسائل الاعلام او الندوات، على ان يتم طرح الحلول وعدم الاكتفاء بالانتقاد وتأشير التجاوزات فقط.

لهذا ينبغي أن يتآزر أصحاب الكفاءة مع مصادر المراقبة المختلفة إذ لا يصح قط، أن يُترك العمل في الميدان السياسي، لمن لا يتسم بالقدرة على هذا العمل، كونه يمس حياة الناس جميعا، وينبغي لمن يعمل في السياسة أن يتحلى بالنزاهة أولا، بالإضافة الى أهمية توافره على المؤهلات المناسبة التي تسمح له بالدخول في ميدان السياسة وإدارة هذا العمل المهم في حياة الشعب.

لهذا ينبغي أن تكون هناك توعية مستمرة تصب في حث الكفاءات السياسية على عدم الانزواء جانبا، وحتمية إزاحة من لا يمتلك الخبرة الكافي في هذا المجال، كونه لا يشبه المهن الفردية التي لا تنعكس أخطاءها على المجتمع، كما هو الحال مع السياسية، فالخطأ في أي قرار سياسي سوف يعود بالضرر على أفراد الشعب كافة ولا ينحصر بفرد واحد فقط.

التميز في الانجاز السياسي

السياسي الذي لا يمتلك ذخيرة كافية تدعمه لانجاز عمله بصورة صحيحة، لا يصلح للعمل في هذا المجال لاسيما أن العراقيين يمرون في مرحلة بناء عصيبة، تستدعي وضع الأسس الجيدة لهذا البناء، فالمجتمع العراقي يخوض عمليات بناء شاملة في عموم مجالات الحياة، لذلك مطلوب من العراقيين الحرص التام على أن تكون عمليات التأسيس صحيحة.

ولا يُخفى على المتابع والمهتم، أن الكثيرين من غير المناسبين، قدر تسللوا الى الميدان السياسي من دون أن تكون لديهم الخبرات الكافية للعمل في هذا الحقل الحيوي المهم، وهدف هؤلاء واضح تماما، إذ ينحصر بالحصول على المناصب والمكاسب المادية الكبيرة، مقابل جهل كبير واستخفاف بالعمل السياسي، كما يشير الى ذلك جانب من واقعنا، حيث يغيب أصحاب الكفاءات وتغيب معهم حالات الانجاز الجيد والتميز في الأداء السياسي.

ولعله من المؤسف أن يؤدي تراجع أصحاب الخبرة أما من يفتقر لها، حيث تسلل الانتهازيين الى الميدان السياسي، بل تسلل بعض المخادعين الذين لا يجيدون هذا النوع من العمل أصلا، كونهم لم يتعلموا فن السياسة، بالإضافة الى افتقادهم للمؤهلات التي يتطلبها هذا المجال الحيوي، الذي يمس حياة الناس ومصائرهم، هذا الأمر الواضح للعيان، لا يمكن أن يُغطى بغربال التصريحات والبيانات وسواها، لذا لا يصح لأصحاب الكفاءات أن يتجنبوا العمل في السياسة، والهروب منها الى مجالات عمل أخرى، بحجة الصراعات وما شابه، فالسياسة كما ذكرنا تمس حياة الجميع، وليس صحيحا تركها لمن لا يجيد العمل فيها.

من هنا تدعونا المسؤولية الى أخذ الدور الصحيح في التصدي الى هذه الحالة التي لا تخدم الدولة ولا تسهم في بناء مجتمع مدني متطور، لذا ينبغي أن يكون هناك دور سياسي رقابي لكل فرد، ولكل نخبة من موقعها القيادي، حتى يفهم السياسيون أنهم تحت ضوء المجهر والمراقبة الشعبية دائما، وأن السياسي الذي يعمل في هذا المجال لتحقيق منفعة فردية لا يمكن أن يُسمَح له في البقاء في عمل يؤثر بحاضر ومستقبل الدولة والمجتمع.

اضف تعليق