بدأ المشهد قبل ثلاث سنوات وبضعة أشهر، عندما تعطّلت فرامل سيارتي وكدتُ أدهس إحدى النساء، تخلّصتُ من الحادث وتوجّهت إلى المصلِّح (الميكانيكي) المتواجد في (الحي الصناعي) كي أعيد كابح السيارة إلى سابق عهده، وعندما وصلتُ المحل المطلوب، فوجئت بمشهد لا يمكن أن أنساه بسهولة، كان الفصلُ شتاءً، وكان ثمة صبي نحيف يرتدي قميصا صيفيا في عز البرد، وكان عمله يقتصر على تزويد العامل الميكانيكي بما يحتاجه من أدوات شد وفتح، أي أنه لا يؤدي أي عمل بيده، لا أعرف لماذا لم يكن يرتدي ما يكفي من ملابس.
جاء الدور لسيارتي، بدأ الميكانيكي بفك صواميل الإطار، وكان الصبي يأتي له بالمفاتيح حسب الأرقام التي يطلبها من الصبي، والأخير كان مكتفيا بهذه المهمة، وكان يتابع أستاذه بدقة، وكان يلاحظ خطوات التصليح بعينين لا ترمشان، لاحظتُ دقة متابعته للعمل ولا أعرف مدى استيعابه لخطوات التصليح، سألته لماذا لا ترتدي ما يكفي من ملابس تحميك من البرد؟. فقال ربّ العمل يرفض ذلك ولا أستطيع مخالفة أوامره.
بعد أن أنجر الميكانيكي إصلاح فرامل (بريك) سيارتي، شكرته وأعطيته أجره، ثم رجوته أن يجيبني عن سؤال مهم بالنسبة لي ولا أحد غيره يستطيع أن يجيب عنه، فقال تفضل بسؤالك، قلت له: لماذا تأمر هذا الصبي بعدم ارتداء ملابس شتوية يحمي بها جسمه من البرد؟. فأجاب: حتى يتعلم هذه المهنة بسرعة أكبر.
ابتعدتُ عن محل الميكانيكي بسيارتي التي بدأت فراملها تعمل بشكل جيد، كنت أفكر بيني وبين نفسي، ما علاقة البرد بإتقان الصبي للمهنة، وأين الحكمة في منعه من ارتداء ملابس كي لا يتعرض للزكام أو سواه، لم أنس هذا الموضوع، لكنني لم أسأل عنه أي شخص آخر، بعد ثلاث سنوات أو أكثر قليلا، زرت المحل نفسه، بسبب عطل جديد، فرأيت الصبي نفسه وقد تغير جسمه وأصبح أكثر طولا ووزنا وبدت عضلاته قوية نافرة، ورأيته يقوم بأعمال التصليح بنفسه، وكان تحت يده صبي يقوم بتزويده بآلات الفتح والشدّ، فيما كان الميكانيكي الأقدم يجلس على كرسي ينعم بدفء الشمس ويرتشف الشاي الساخن بهدوء، ولا يتدخل في العمل إلا في حالة حدوث استعصاء لا يتمكن منه الشاب.
أعدتُ على رب العمل سؤالي نفسه الذي لم يجب عنه في حينها، قلت له قبل سنتين سألتك لماذا تمنع الصبي من ارتداء الملابس في الشتاء؟ وها أنا أسألك الآن السؤال نفسه وأريد منك توضيحا في الإجابة إذا سمحت. فقال: ألا تلاحظ أن الصبي كبر وتطور كثيرا في العمل، إنه يقوم الآن بأعمال التصليح التي كنت أقوم بها بنفسي. قلتُ له بالفعل لاحظت ذلك، فهو الآن يتقن أعمال التصليح بصورة جيدة كما يبدو، ولكن لم تقل لي لماذا كنت تمنعه من أن يحمي نفسه من البرد؟. فقال:
أستاذ في التدريب لا بد للصانع الجديد أن يواجه المصاعب، ولا يصح أن يجد الطريق أمامه سالكا وممهدا، يجب أن تكون هناك مصاعب كثيرة تواجهه حتى يتعلم كيف يواجهها وكيف يتقن المهنة بصورة أسرع وأدق.
فوائد الإطراء والتشجيع
بالطبع هناك فوائد يمكن أن تتحقق عندما يواجه المتدرّب صعوبات في التعلّم، حتى يتعلم بالفعل كي يتجاوز ويعالج هذه المصاعب، ولكن هناك الآن أسلوب أفضل من عرقلة العامل أو المتدرّب الصغير، ونعني بهذا الاسلوب التشجيع والاطراء وهو اسلوب أثبت نجاحه في التسريع بتعلّم المهنة بصورة سريعة ومتقنة.
عندما طرحنا هذا الأسلوب على المدربين في المهن العملية التي تحتاج الى قوة عضلية كأعمال التصليح الميكانيكي، أجابوا، أن التشجيع مطلوب ولكن يجب أن يواجه المتدرب صعوبات كثيرة حتى يتقن عمله بصورة أفضل، وعندما قلت لهم إن التشجيع أفضل من وضع العراقيل والصعوبات، لم يتفقوا معي.
قد يكون لبعض المهن طريقة معينة للتدريب، ولكن هناك مهن أخرى لا تنفع معها القسوة، بل كلما كان اللين والتعامل الهادئ حاضرا كلما كان ذلك عاملا مهما في تسريع إتقان المتدرّب للمهنة، يظهر هذا بصورة جلية في مجال الكتابة، وقد يكون هناك فارقا كبيرا بين مهنة الميكانيكي ومهنة الكتابة إذا جاز لنا أن نطلق وصف (مهنة) أو على الكتابة بأنواعها.
من ناحيتي أو من وجهة نظري الشخصية، لا أوافق على تعويق عمل المتدرّب الجديد في العمل الكتابي، بل على العكس من ذلك كلما كان المدرّب أكثر قدرة على تذليل المصاعب التي يواجهها المتعلّم، كان أكثر قربا من درجة النجاح في جعل طلابه يتقنون مهنة الكتابة، بل من الواضح أن التشجيع والإطراء يسهم بصورة فعالة في تسريع إتقان الأقلام الشابة للدخول في ميدان الكتابة الصعب.
أما عندما نقارب بين مهنة الميكانيكي والكاتب، فالحقيقة يمكننا أن نطلق على الاثنتين تسمية (مهنة) مع اختلافهما الكبير، فالميكانيكي يعتمد عمله على القوة والقسوة والعضلات، والأجواء المتعبة، في حين لا ترافق مهنة الكتابة (المكتبية) مثل هذه الأجواء، لأننا لا نعني هنا الكتابة في أجواء عصيبة، لذلك يحتاج الكاتب الى الهدوء وبضعة أوراق وقلم أو حاسبة مع فنجان قهوة ومكان مريح للأعصاب ومساعد على التركيز كي ينجز عمله الكتابي بأفضل وجه، وهذا يعني أن هنالك فارقا كبيرا بين المهنتين.
العوامل المساعدة لنجاح التدريب
بالفعل هنالك عوامل مساعدة على انجاز مهمة المدرّب على أفضل وجه، ولكن ينبغي أن نعترف أن مدرّب الكتاب لا يحتاج الى أن يمنع المتدربين من ارتداء ملابس كافية كي يتقوا من البرد، نعم قد يحتاج المتدرّب الميكانيكي بعض القسوة، ولكنني حتى في هذه الحالة أي فيما يخص تعلم مهنة الميكانيك، فإن التشجيع سوف يترك أثره، ولا يمكن للقسوة أن تكون بديلا عن الإطراء والتشجيع.
أما في ما يتعلق بنجاح المتدرّب على اتقان مهنة الكتابة، فإن عنصر التشجيع يعد من أهم الطرق التي تساعده على أن يكون متميزا، لاسيما اذا كان من ذوي المواهب المتميزة، ولا يمكن أن تكون الخشونة والقسوة عاملا مساعدا أو مسرّعا لتعليم المتدرب على الكتابة، لذلك أرى من وجهة نظري الشخصية، واستنادا الى تجربتي في هذا المجال، أن حاجة المتدرّب على الكتابة للتشجيع أمر لا يمكن الاستغناء عنه.
ويمكن أن نجزم هنا بأن الإطراء على المتدرب لابد أن تدخل في صلب ثقافة التدريب ونشرها بين شرائح المجتمع كافة، ومرافق الدولة والمنظمات والنقابات والاتحادات المعنية بتدريب الشباب على إتقان مهنة الكتابة بأشكالها الإبداعية والخبرية والإعلامية بصورة عامة، وهناك أسس ومقومات لابد أن يتمسك بها المدرّب والمتدرّب في الوقت نفسه كي يتم إنجاز مهمة التدريب على أفضل وجه.
ومن بين هذه الأسس والمقومات، التزام المتدرّب، وجديته في التدريب، وتمسكه بأخلاقيات ومبادئ الكتابة الصحيحة، ومنها على سبيل المثال حرص المتدرب على عدم تجاوز القواعد الأخلاقية للكتابة كالحفاظ على الملكية الفكري، والابتعاد عن الانفعال، وعدم وضع الكتابة في خدمة الأغراض المسيئة، حيث هناك شخصيات وجهات يمكن أن تشتري قلم الكاتب، ولكن قلم الكاتب هو شرفه، وعلى الانسان أن يحافظ على ذلك.
هذه الأسس وغيرها يمكن أن تصنع كاتبا جيدا، بعد أن يتلقى دورات تدريبية جيدة، لهذا ينبغي من الجهات المعنية، أن تروّج لثقافة التدريب وتنشرها، وتعمل على تكريسها في عموم المجتمع، مع أهمية الحفاظ على طرائق التدريب الصحيحة والضامنة لانتاج عناصر تتصدى لهذه المهنة بجدارة وكفاءة عالية.
اضف تعليق