تزامن عمليات تحرير مدينة الموصل مع لقاء استثنائي وفريد من نوعه لقادة الفصائل العسكرية المكونة للحشد الشعبي، يدفع نافذة المستقبل قليلاً على مرحلة ما بعد العمليات العسكرية مع التنظيمات الارهابية على الأرض العراقية، بعد ان تحولت الموصل الى الجدار الأخير لهذه التنظيمات متمثلة أخيراً بـ "داعش"، ولم تبق مساحة أخرى على الأرض تكون صالحة للمواجهة العسكرية المفتوحة مع القوات المسلحة العراقية، مما يمكن القول معه؛ إن دعوة السيد مقتدى الصدر الى هذا اللقاء التاريخي في منزله بالنجف الاشرف، تنطوي على تبصّر باستحقاقات المرحلة واستشراف للمستقبل.
هذه الهمّة "الحشدية" – إن جاز التعبير- لم تنمُ وتثمر عن هذه اللقاء إلا بوجود معطيات كبيرة في الساحة دفعت باتجاه التقارب على نقاط الالتقاء وترحيل الخلافات في الرؤى والاساليب، وإلا لم يكن أحد في العراق يتوقع أن يكون يوماً ما، الشيخ قيس الخزعلي زعيم تنظيم عصائب أهل الحق، الى جانب السيد مقتدى الصدر زعيم التيار الصدري؟.
الامر الاول: الاستحقاق السياسي
في الوقت الذي كان التحالف الوطني العراقي منهمكاً في تنظيم صفوفه وإحياء دوره السياسي مع قرب موعد اجراء الانتخابات البرلمانية العام القادم، كانت التنظيمات الحشدية تفكر بصمت في صياغة عنوان موحّد تدخل تحته في الساحة السياسية الى جانب التحالف الوطني الذي يضم المكونات الشيعية التي احترفت العمل السياسي خلال السنوات الماضية، مثل حزب الدعوة الاسلامية والمجلس الاسلامي الاعلى وحزب الفضيلة. وثمة مؤشرات على احتمال خوض بعض "الوجوه الحشدية" في معترك الانتخابات بقوائم مستقلة او ضمن قوائم اخرى.
هذا الانتقال من ساحة القتال الى ساحة السياسة، أمرٌ ليس بالغريب مطلقاً، فقد شهدت معظم بلاد العالم صعود نجم جنرالات وأبطال حروب، في ساحة الانتخابات وتحقيقهم لنتائج باهرة ضمن التجربة الديمقراطية، إذ من الطبيعي أن ينظر الناس الى بطل الحرب على أنه رمز للتضحية والشجاعة وحب الوطن.
الامر الثاني: الاستحقاق الجماهيري
إن الانتصارات الكبيرة التي حققها الحشد الشعبي بتحرير القرى والمدن من الاحتلال الداعشي خلال العامين الماضيين، خلقت مفارقات جديدة في العلاقة بين المواطن والمسؤول في الدولة، ففي الوقت يقدم الشباب والشيوخ وحتى صغار السن، ارواحهم في جبهات القتال، نجد استمرار حالة الفساد الادراي رغم وعود الإصلاح وإشهار سلاح النزاهة، والى جانبها ايضاً استمرار مسلسل الارهاب الذي يحصد بسهولة – كما في السنوات الماضية- ارواح الابرياء في الاسواق والشوارع والاماكن العامة، وربما يكون أحد ذوي المقاتلين بين ضحايا الارهاب داخل المدن.
هذا وغيره، يضع الحشد الشعبي أمام مسؤولية جديدة في المرحلة القادمة بإحياء الأمل في النفوس بمستقبل أفضل، على أن فصائل الحشد الشعبي، تعد الأقرب الى القاعدة الجماهيرية من سائر المكونات السياسية الاخرى في الساحة العراقية، مما يجعلها محط أنظار الجماهير بأن تفعل أشياء عجز عنها الآخرون.
الامر الثالث: الدافع الديني
متمثلاً بالمرجعية الدينية وحرصها الدائم على التماسك ووحدة الصف أمام التحديات الخارجية، وهي تعوّل كثيراً على فصائل الحشد الشعبي لأن تكون الأمل الكبير للشعب العراقي بكل طوائفه ومكوناته في مواجهة خطر الارهاب الذي كاد أن يفتك بالبلاد على حين غفلة من أهلها وحكامها في بغداد، ومع قرب تحرير الموصل، كآخر قلعة للارهاب التكفيري والطائفي، فان مسؤولية فصائل الحشد الشعبي في التوحد ضمن إطار واحد يضعهم جميعاً في خانة المنتصر في هذه الحرب دون إقصاء أحد، وهذا ربما يكون نوعاً من الوفاء لجميع الشهداء والجرحى الذين ضحوا بكل شيء لأداء واجبهم المقدس، بما يعني تتويج فتوى الجهاد بالانتصار الكبير في ساحة القتال، وتقديم هذه الثمرة الى الشعب العراقي لتكريس الجانب العقائدي في النفوس وتعزيز العلاقة بالقيم والمبادئ التي ضحى من أجلها الآلاف من ابناء الشعب العراقي.
وهنا يقفز السؤال:
ما هي المعركة القادمة للحشد الشعبي في العراق؟
صحيح إن القضاء على "داعش" يمثل – الى حدّ ما- نهاية للمعارك مع الجماعات الارهابية، وبداية لمرحلة البناء والإعمار والتنمية في المناطق المتضررة، وفي عموم العراق، مما يخلق مناخاً سياسياً جديداً لعموم المكونات السياسية لنظام الحكم، من الكرد والشيعة والسنة، لإعادة النظر في المنهج والاسلوب، بيد أن مراقبون ومطلعون يشيرون الى معركة أخرى، ربما تكون رديفاً للمعركة السياسية يتعين على فصائل الحشد الشعبي خوضها، وهي الحرب الخفية مع الجماعات الارهابية، لان نهاية داعش لن تكون بأي حال من الاحوال نهاية للارهاب في العراق، وحسب أحد المطلعين؛ فان جيش الارهاب الذي قاتل ضد النظام السياسي برمته خلال السنوات الماضية، سينتقل من الحرب على الارض، الى التحرك تحت الارض، بما وصفه بالاسلوب "الانغماسي" بتغلغل العناصر الارهابية في مختلف أجهزة الدولة وحتى في المجتمع، ومن ثم توجيه الضربات حسب الأوامر في الوقت المحدد، والتي ليس بالضرورة ان تكون ذات طابع عنيف ودموي فقط، إنما تكون ايضاً بالتخريب وإفساد المشاريع التنموية وعرقلة أي تطور سياسي او اقتصادي.
وهذا يعني أن الجهد المطلوب لمواجهة هذا الاستحقاق الخطير، سيكون استخبارياً بامتياز، وتكون المعلومة الدقيقة بمنزلة الرصاصة القانصة والقاتلة، ولن تنجح المهمة إلا بتعاون مشترك وتنسيق أمني بين جميع الفصائل المسلحة التي خبر ابطالها سوح المعارك ببسالة وشجاعة وروح معنوية عالية وعقيدة راسخة، تمكنهم من الإسهام في هذه المعركة الجديدة والقادمة.
وهذا يعزز اعتقاد بعض المحللين بأن تخوض فصائل الحشد الشعبي تجربة العمل الأمني والاستخباري ضمن منظومة عمل مشتركة لضمان أمن واستقرار البلاد، كما في الحال في عديد الدول التي تحول فيها المقاتلون والمحررون الى الخدمة في العمل في مؤسسات أمنية تابعة للدولة.
هذه المعركة، الى جانب المعركة السياسية القائمة اساساً، هو ما ينتظر الحشد الشعبي في قادم الايام، وربما يكون الاتفاق على الخطوط العريضة في النجف الأشرف بداية لسلسة اتفاقات على التفاصيل فيما يتعلق بالمرحلة القادمة مما يضع الحشد الشعبي على المحك ليثبت جدارته في المكان المناسب.
اضف تعليق