للهوية الثقافية أكثر من ميزة تبعا لخصوصية هذه الثقافة او تلك، وجذورها وصفاتها وتبعا لاختلافها عن الثقافات الأخرى، ولو أننا أردنا معرفة ما تعنيه ثقافتنا، فإننا لاشك سوف نستطلع ما يدور في ساحتنا من أفكار وسلوك، وسوف يكون هناك حضورا أساسيا للثقافة الإسلامية التي نستمد منها أفكارنا، وتنطلق منها منظومتنا السلوكية ورؤيتنا للحياة بوجه عام.
ولا شك أن ثمة تباين كبير بين ثقافات الأمم والشعوب بعضها عن الأخرى، تختلف الثقافة من عقيدة إلى عقيدة أخرى، ومن شعب إلى شعب آخر، ومن مرحلة زمنيّة إلى مرحلة زمنيّة أخرى ..فالثقافة الأوربية الرأسمالية، تختلف عن الثقافة الماركسية.. وهاتان الثقافتان تختلفان عن الثقافة الاسلامية ... إلخ، ونقصد بالهويّة الثقافية: نوع الثقافة، فللثقافة الاسلامية، مثلاً، هويّتها الخاصة بها، أي نوعها الخاص، فهي ثقافة تقوم على أساس الايمان بالله تعالى، وبالوحي والنبوّات واليوم الآخر، لذلك فإن أي فكر يبتعد عن الثوابت سوف يأخذ الشباب الى مناحي ومسارات أخرى ربما تشكل خطرا عليهم.
ومن أخطر التأثيرات التي تهدد الهوية الثقافية للمجتمع، عندما تكون ثقافته ضعيفة وقابلة للذوبان في الثقافات الأخرى الأكثر قوة من ثقافة المجتمع، ولعل الشباب هم أكثر الفئات تأثرا بالثقافات الأخرى وهم أيضا أسرع الفئات تأثرا، لذلك ينبغي التنبه والحرص المضاعف على الشباب من انخراطهم في هذه الثقافة او تلك، كما هو الحال في موجات الالحاد وما شابه.
لذلك يتم التفريق بين الثقافة المادية والاسلامية تبعا لجوهر هذه الثقافة ومل تؤمن به، وكما يرى أحد المختصين في هذا الجانب، فإن الثقافة المادية هي ثقافة تقوم على أساس الإلحاد، ونكران وجود الله تعالى والأديان وقيم الأخلاق ... إلخ ..في حين أننا كمجتمع تحكمه القيم والمبادئ الاسلامية نختلف تمام الاختلاف عن تلك الثقافات.
لذا نلاحظ أن المخططات التي تهدف الى إخضاع امتنا تذهب على نحو مباشر باتجاه فئة الشباب، وتسعى أن تجعل ثقافتهم ضعيفة مهلهلة قابلة للذوبان في الثقافة الأخرى، ما يعني تشتت الشباب وعدم إيمانهم بالثقافة التي عرفوها وأخذوا منها القيم التي توجّه مسارات حياتهم، فيكون العمل هنا مركَّزا على زعزة ثقة الشباب في ثقافتهم الأم، وإن تمكنوا من ذلك فإنهم سوف يضمون الخطوات الأولى لتحقيق مآربهم، من خلال تدمير أسس الهوية الثقافية الأم.
الثقافة ومنظومتي الفكر والسلوك
تنتج الثقافة، أية ثقافة، مسارين يمكن معرفتهما من لدن المتابع أو الباحث المتخصص، فالمثقّف المسلم، هو الشخص الّذي تكوّنت لديه ثقافة ومعرفة على أُسس إسلامية، وتظهر آثار ثقافته في سلوكه، وكتابته إن كان كاتباً أو مؤلِّفاً، وفي حديثه عندما يلقي محاضرة أو يدير ندوة، أو يتحدّث في اجتماع، أو يدخل في حوار ثقافي، وهذا يعني أن الثقافة أو الهوية الثقافية تفرض حضورها على الفكر والسلوك معا.
فالإنسان المسلم سوف يكون سلوكه محكوما بهويته الإسلامية قطعا، وكذا بالنسبة للإنسان المحكوم بثقافة مسيحية مثلا أو سواه، لذلك فإن يمكن وصف المثقّف المسلم، بأنه هو الشخص الّذي تكوّنت لديه معارف إسلامية من القرآن الكريم والسنّة والسيرة النبويّة المطهّرة والتأريخ والفقه والعقيدة والفكر الإسلامي، فصار يفهم المعرفة الإنسانية والحياة والمجتمع على أُسس إسلامية، فهو يفهم مثلاً الحريّة والسياسة والأخلاق وعلاقات الرّجل بالمرأة والسلوك الاجتماعي على أُسس إسلامية، ويفهم الأمور، ويفكر وفق ثقافته التي استقى منها طريقة وجوهر التعامل مع الآخر ومع الحياة على وجه العموم.
لذلك ينبغي التنبّه الى أخطر مسارين يمكن أن تؤثر فيهما الثقافات الأخرى على الشباب، المسار الأول هو التأثير على طبيعة الفكر الذي يحمله الشباب، والثاني يأتي كنتيجة منطقية للمسار الأول، فعندما يتم التأثير في الفكر وإضعافه وسلبه خصوصيته، فإن هذا الأمر سوف ينعكس بصورة قاطعة على طبيعة السلوك، لأن الأخير هو نتاج حتمي للثوابت الفكرية التي تفرزها طبيعة الثقافة التي تم زرعها في شخصية الشاب.
وربما يأخذ التأثير في الهوية مسارا آخر، هو التأثير في الشرائح الاجتماعية الأخرى، وإن كان ذلك في نسبة أقل، لذا ينبغي مراقبة التأثيرات التي قد تحدثها الثقافات الوافدة من الخارج، والتي تستهدف ثقافة الشباب وهويتهم أولا، وهذا يستدعي قيام الجهات المعنية باتخاذ خطوات عملية ثقافية يكون بإمكانها منع التأثير الذي قد يطول هذه الشريحة او الفئة المهمة من المجتمع.
على أن تكون هذه الإجراءات فعلية قابلة للتطبيق بصورة منتظمة، بالإضافة إلى أهمية أن تكون موضوعة من عقول لها باع كبير في مجال مكافحة تأثير الثقافات الوافدة التي لا تستهدف العلاقات المتكافئة بين الثقافات العالمية، وإنما هدفها التذويب الثقافي وتدمير الهوية الثقافية للشباب كبداية وخطوة أولى وأساسية لتدمير هوية المجتمع والأمة برمتها.
الهوية الثقافية ومسؤولية المثقف
من هي الجهة التي يمكن أن تدافع عن الهوية الثقافية؟، هل يمكن أن يكون الإنسان متساويا في هذه المسؤولية، أم هناك تباين في حجمها تبعا لدرجة الوعي والذخيرة الثقافية الفكرية التي يحملها الانسان أو يتميز بها عن سواه، لا شك أن الانسان المثقف هو الأكثر جدارة في القيام بمهمة حماية الهوية الثقافية أكثر من غيره.
لذلك لا بد من أن العلماء والمفكرين والأدباء والفنّانين ورجال الصحافة والإعلام، يمثلون الرهط الأول في التصدي لمسؤولية حفظ الهويّة الثقافية من خلال ما يطرحونه من أفكار وقيم، ومضامين متعددة تتوزع على الأجناس الابداعية كافة فضلا عن الفنون على وجه العموم، ولا ريب أن المؤسسات التعليمية والتربوية يقع عليها حمل كبير في هذا المجال، فثمة الكثير من الأكاديميين والتربويين والمفكرين أنتجوا أروع المؤلفات التي تضم في بطونها أرقى الأفكار التي تصدت بدورها للثقافات المغرضة، وتعاملت باحترام مع ثقافات أخرى لم يكن هدفها التشويه والتذويب والتبعية، وإنما كان هدفها خلق التلاقح الإنساني الجاد والمفيد.
فالثقافة التي لا تحمل بين ثنياها وأفكارها غايات مبيتة، لا بأس في أن يتعامل معها المثقفون ورجال الدين وغيرهم حتى من الشباب، لا بأس من التعامل معها من اجل تبادل المعارف وتطوير الخبرات لانتاج القيم الجيدة وتطوير الحياة برمتها، ليس من خلال تدمير الهوية الثقافية وإنما من خلال حمايتها والحفاظ عليها.
إذاً لا يمكن تجاهل الدور الكبير الذي يمكن أن يقوم به المثقف في مجال حفظ الهوية الثقافية، ولكن هذا الدور لا يمكن أن يتحقق بصورة اعتباطية، وإنما ينبغي أن يكون عمل تنظيمي ثقافي وفكري جبار ومخطط له سلفا، حتى يكون قادرا على النهوض بهذه المهمة الكبيرة وبالغة الأهمية، أما كيف يمكن الوصول الى هذا الهدف الجوهري في مجال حفظ الهوية الثقافية، فإن الأمر منوط بالجهات ذات العلاقة.
وهذا بدوره يستدعي كثيرا من الاستعداد والعمل المنظّم والمتخصص من أجل حماية ثقافتنا وخصوصيتنا التي تعني في نهاية المطاف، صنع صمام الأمان الذي يحمي شبابنا من تأثيرات الثقافات الوافدة، وبالنتيجة، سوف يحصل المجتمع والأمة كلها على حصانة قوية ومضمونة النتائج، ضد الذوبان الثقافي في الثقافات الاخرى، وهذا في الحقيقة هو أهم وأكبر هدف ينبغي أن يضعه المعنيون في حساباتهم، ويعملوا من اجل تحقيقه على مدار الساعة.
اضف تعليق