ما الذي جمع القوى الكبرى في خندق واحد، ولأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، لخوض الحرب ضد "الارهاب"؟ وما الذي جعل الاسلام ينقسم، ولأول مرة ايضاً، منذ قرون من الزمن، الى "إسلام سنّي" و "إسلام شيعي" ليكون هو محور الحرب ضد الإرهاب؟!
عبارات تضمنتها احاديث زعماء روسيا وبريطانيا واميركا وفرنسا والمانيا وغيرهم المتخندقين في هذه الحرب، تحمل طابعاً فكرياً وثقافياً، فهم يتحدثون عن تهديد الارهاب لقيم انسانية في بلادهم مثل السلم الأهلي والتعايش والحرية وحتى الكرامة الانسانية، وربما هي في شحّة او أزمة في نفس هذه الدول، بيد إن الاعلام وأدوات التثقيف، عملت على توحيد الخطاب لخدمة "التحالف الدولي ضد الارهاب" في مشروعه الذي يُراد له ان يكون حضارياَ قبل ان يكون سياسياً، فهم ليست لديهم مشكلة سياسية مع تنظيم داعش – مثلاً- ولا حتى مع مواطنيهم الذين انخرطوا في صفوف داعش، وتحولوا الى قنابل تنفجر هنا وهناك.
هذه القيم الاخلاقية والانسانية التي يفترض أنها من الموروث الحضاري الاسلامي، كانت الغائب الاكبر عن الساحة الاسلامية طيلة العقود الماضية، وماتزال، والسبب يعود الى التجربة التاريخية المرّة مع الحكام الذين استبدلوها بقيم أخرى من سنخ المناهج السياسية المتبعة لديهم، فعملت على صياغة شخصية الانسان (المواطن) وفق مبادئ الاشتراكية او القومية او العلمانية، وهو ما طبع ايضاً، الحياة العامة لهذا الشعب وذاك، فأضحت هنالك عادات وأنماط جديدة للعيش لدى المجتمعات الاسلامية، مثل السفور والتحلل الاخلاقي في المجتمع، وتفشي الربا والاحتكار وغيرها في ميادين التجارة والاقتصاد، وغير ذلك كثير.
وحتى يُصار الى إحياء هذه القيم والمبادئ، نهضت الشريحة المثقفة والواعية للدعوة الى تحكيم هذه القيم في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في وقت واحد، وبالامكان ملاحظة أوجه الشبه بين المنطلقات الدينية لدى الحركات الاسلامية السنية والاخرى الشيعية في البلاد الاسلامية، فالجميع يدعو الى تحكيم النظام الاسلامي في جميع نواحي الحياة، يبقى الاختلاف في السبل الموصلة الى الهدف.
وبما ان آليات التطبيق العملي تعكس المنهج الفكري لهذه الحركة وذلك التيار، فان الاهداف والغايات حركتها باتجاهات خاطئة، ومن أبرزها؛ التأكيد على الرمزية والهوية والانتماء، وتجاهل السلوك والاخلاق والآداب، فباتت الايديولوجيا كل شيء في بعض التيارات الفكرية والثقافية، و وجد الانسان المسلم نفسه، بدلاً من أن يستفيد من النهضة الفكرية والثقافية ما يصوغ به حياته العملية ويواجه بها التحديات، وجد نفسه يتعرض للتحدي من قبل هذه النهضة نفسها! لذا نجد بعض التيارات انسحبت بهدوء من الساحة الاجتماعية واستبدلت خيار الجماهير بالنخبة الخاصة بها.
فيما البعض الآخر لجأ الى الانتقام من المجتمع بتكفيره كما حصل في مصر اواسط التسعينات بظهور تنظيم "التكفير والهجرة"، بعد أن وجدوا أن لا فائدة من "الجهاد" في محيط الوطن، فاختاروا المهاجر، فكانت افغانستان وباكستان المعقل لهم، ثم تحولت الى مدارس خرجت فيما تنظيمات دموية وتكفيرية لم يسبق للتاريخ الاسلامي ان شهد مثيل لها.
في المقابل، عكف علماء الدين الشيعة منذ أواسط القرن الماضي على بلورة رؤية اسلامية شاملة لنظام اسلامي من منطلقات حضارية، تبعث الروح والفاعلية في الدين والاخلاق والقيم الانسانية، وقدموا تفسيرات كاملة عن قضايا فكرية وعقائدية ومسائل تخص حياة الانسان، كما أحكموا الربط بين الاحكام والتشريعات وبين التطبيقات العملية على أرض الواقع، مما يعزز الاعتقاد بنجاحها وأحقيتها على غيرها من المناهج والخيارات.
ولعل سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره- يقف في طليعة من نهض بهذه المهمة، فقد جاء في كتابه "عالم الغد" حدد خمسة أسس أقام عليها الاسلام أساسها الحضاري وهي: الدولة، والأمة، والأخوة، والشريعة، والحرية، وقد تفرع من شجرة هذا الرجل الفذ، علماء ومفكرين وباحثين ومؤلفين أغنوا الساحة الاسلامية بالفكر الاسلامي الأصيل.
بيد أن الاخطاء الفاحشة كانت أكبر من المشاريع الثقافية والجهود الجبارة لإنشاء دور نشر ومكتبات وحوزات علمية ومؤسسات بحثية وحتى مشاريع اجتماعية وتنموية وغيرها، فكانت النتيجة أن تسرق الانظمة السياسية ما حملته بعض الحركات والتيارات من شعارات اسلامية، والنتيجة أن يكون النظام البعثي – العلماني، وبشكل عجيب، يحمل لواء "الحملة الايمانية" في اواسط التسعينات، فيما تدعي السعودية لنفسها رعاية أهل السنة في العالم وتدافع عنهم بكل قوة وعنف امام تهديدات مزعومة.
فبين أخطاء النخبة المثقفة من اهل الفكر والثقافة، وبين التوظيف السياسي من أهل السلطة، ضاعت منظومة القيم والمبادئ وما يشكل البوصلة التي تحمل الناس من المشرق الى المغرب الى بر الأمان، فهم من حيث يريدون او لا يريدون، في خندقين إسلاميين متقابلين: الخندق الشيعي وتمثله ايران، والخندق السني وتمثله السعودية، وما الهجرة الجماعية غير المسبوقة في التاريخ من البلاد الاسلامية الى الغرب، وحالة اليأس المطبق من كل شيء لمن بقي في بلده، وارتفاع جدار عدم الثقة بين الحاكم والمحكوم، وغيرها من المآلات المدمرة، إلا انعكاساً واضحاً لفقدان الامة ذلك الإسلام الذي يمنحهم الكرامة الانسانية أولاً، ثم يقدم لهم خارطة الطريق لحياة يشاركوا هم في صناعتها وصناعة حاضرهم ومستقبلهم.
أما المنتصر في نهاية المطاف فانه لن يكون إسلام هذا أو إسلام ذاك، إنما المنتصر هي تلك الدول التي تتسابق على الحضور في ساحة المعركة ضد "الارهاب" الذي هو إفراز من تلكم الاخطاء الفاحشة التي ارتكبتها النخبة الاسلامية وبعض الانظمة السياسية في بلادنا، وكلما استمر الصراع بين "الإسلامين" كلما كسبت الدول المتسابقة من الشرق والغرب ، امتيازات سياسية واقتصادية وفرص للنفوذ السهل في العراق وسوريا واليمن ومصر والحجاز وغيرها من البلاد، ويبقى المسلمون مع "إسلام القشور" والمظاهر والرموز دون روح ومحتوى.
اضف تعليق