بينما كان عبد الله بن عباس، جالساً وحوله عدد من المسلمين في فسحة من مناسك الحج، وإذا بالامام الحسين، عليه السلام، يمر به، يسلّم الامام، عليه السلام، وبعد رد السلام، يدعو بن عباس للالتحاق به او الاشارة الى الاقتداء به لتعليم المسلمين أحكام الدين – مضمون الرواية- فكان جواب الإمام الحسين: الأجدر معرفة أيّ ربٍ يعبدون...؟!.
لعل من أهم رسائل الحج، بما يتضمن من أعمال ومناسك وأحكام؛ إعلان ما يشبه حالة الطوارئ بين الانسان ونفسه لبضعة أيام، لينقطع عن كل شيء إلا لله رب العالمين، وفي تفسير الاحكام الواردة في أعمال الحج، أن الانسان يتخلّى عن المخيط ويكون حاسر الرأس، كاشفاً عن قدميه، لا ينظر الى المرآة ولا يقتل حشرة ولا حيوان، مهما كانت الاسباب، ولا يقترب الى زوجته، ولا يجادل في الحديث وغيرها، كلها تكشف عن صورة يُراد لها ان تكتمل في نفس الانسان بأن الانسان الطامح الى التكامل والتسامي، عليه أن يحدد الوجهة التي يسير عليها في الحياة، إذ من غير المعقول السير بقدمين على أكثر من طريق في وقت واحد، كما لن يكون بوسعه ان يجمع بين حبين في قلب واحد؛ إنما الحب المطلق والحقيقي هو لله – تعالى- لأنه صاحب النعمة والفضل في وجود الانسان في الحياة، فيعطيه ليشكر ويمنع عنه احياناً ليمتنحه ألا يكفر.
طبعاً؛ سيعود الحجاج الى ديارهم بعد أداء مناسك الحج التي هي عبارة عن خمسة أيام فقط، ويحملون معهم الفرحة والبهجة الى أهليهم بما بلغوا من الفضل والتوفيق بأن توجهوا ربما لأول مرة في حياتهم الى بيت الله الحرام، دون أي شيء آخر، ولعل الآية الكريمة تشير الى ذلك: {ولله على الناس حجّ البيت من استطاع اليه سبيلا}، فتوجه الحجيج يكون نحو بيت الله الحرام، متمثلاً بالكعبة المشرفة في تلك البقعة المباركة والمهيبة، لتطمئن مشاعر واحاسيس الانسان بأنه يقف أمام كيان مشيّد، وفي نفس الوقت فهو يمثل رمزاً للتوحيد؛ كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة، كما عبّر عن هذا بأروع ما يكون، المرجع الديني الراحل؛ الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء.
لذا فان حجاج بيت الله الحرام، يتوجهون قلباً وقالباً الى الله وحده، في كل خطوة يخطونها في هذه المناسك، فمن الواجب عليهم أن يعقدوا النيّة لكل عمل يقومون به، حسب الترتيب المعين، من لبس الإحرام بدايةً، وحتى الطواف حول الكعبة، وعند جبل عرفات، وعندما يريد أن يذبح ويحلق ويرمي الجمرات ويبيت في منى او في المسجد الحرام، لكل هذه الاعمال نيّة مستقلة خاصة يجب ان تكون حاضرة في الذهن والقلب، بغض النظر عمّا حوله من ضجيج وزحام، وهذا لايصدر من شخص واحد، وإنما من حوالي مليونين او اكثر من المسلمين يقومون بعقد النيّة في مواقع متعددة في وقت واحد.
وهذه هي الرسالة التي يبشّر بها الحجاج القادمون من الديار المقدسة الى أهليهم ومجتمعاتهم، بأنهم شهدوا "توحيد الكلمة وكلمة التوحيد"، فلا قدسية ولا محورية سوى لله الواحد الأحد، وهذه ليست مسألة ابتكارية نتحدث عنها اليوم، إنما الريادة كانت للرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، عندما بشّر أسرته (بني هاشم) وأبناء قبيلته (قريش)، خلال محاولة أرباب الشرك التفاوض معه ليكفّ عن حربه ضد الشرك، فقال: "أرأيتم إن أعطيتكم ما سألتم، أمعطي أنتم كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم العجم، ففرحوا وقالوا: ما هي وأبيك...؟! لنعطينكها وعشراً، فقال: قولوا لا إله إلا الله..."، علماً أن الجلساء من رؤوس الشرك، قاموا فزعين ينفضون ثيابهم وقد راعهم ما يدعو اليه النبي، ولم يحتملوا الأمر، وسار عدم الاحتمال هذا، أجيال عديدة من اتباعهم من خلفهم في الحكم لقرون عديدة، كانت السبب في أفول نجم الحضارة الاسلامية الى حد الاطفاء التام وسقوط المسلمين في المتاهات.
ولعل الامام الحسين، عليه السلام، خير من نستضيئ به للوصول الى هذه الحقيقة، وهو اليوم يمثل من مدينته المقدسة (كربلاء) قاعدة إنطلاق للثائرين والمصلحين، ورمزاً للقيم الدينية والانسانية، فهو يبقى رمزاً للتوحيد والتقديس الإلهي، وهذا ما جعله يكون "ثأر الله" كما جاء في الزيارة التي علّمنا إياها الامام الصادق، عليه السلام، فقد أعطى الله، كل شيء، فأعطاه الله كل شيء أيضاً، وكان بإمكانه أخذ شيء في حياته، وهو جديرٌ بذلك، وسط تلك الامواج المتلاطمة التي كانت تضرب الامة، من التصدّع في قواعدها الايمانية والاخلاقية، والصراع المحموم على السلطة تحت رداء "الخلافة" والمسمّيات الدينية، فهو سيد شباب أهل الجنة، وكان خلال عشر سنوات من حياته بعد استشهاد أخيه الحسن، عليه السلام، آخر ابن بنت نبي على وجه الارض ولكن؛ كل ذلك كان أقل بكثير من أن يشق طريقاً آخر له، عليه السلام، غير الطريق نحو الله، وما يريد هو –تعالى- وما المنزلة الرفيعة والكرامة العظيمة لأهل البيت، عليهم السلام، إلا طريقاً وسبيلاً للناس نحو الهدف الأسمى والاخير، وهو الله –تعالى- وحده.
وفي تلك الايام، مرّ به عبد الله بن الزبير، ذلك الشخص المعروف بمواقفه العدائية البشعة من أهل البيت، عليهم السلام، واقترح عليه الالتحاق به في مكة وانتزاع الخلافة من الامويين، فكان الرد الصاعق: "سمعت جدّي رسول الله، يقول سيقتل كبش في الكعبة، ولا أريد ان اكون ذلك الكبش"!! .
وبذلك يحدد لنا الامام الحسين، عليه السلام، مصير من يطمح الى الزعامة مستغلاً التقديس والتعظيم بواجهات مختلفة، كما ذلك الكبش، حيث اعتقد آلاف المسملون الذين سالت دمائهم هدراً، بأنهم يقاتلون بين يدي ابن صحابي...! فهو يلاقي مصيره المحتوم، ويجر الويلات والآهات لآلاف وربما لملايين المسلمين، ليس في البرهة الزمنية التي يعيشها، وإنما لأجيال قادمة.
اضف تعليق