في منطق التاريخ تحتاج الشعوب كي تتطور وتبني نفسها بصورة متكاملة الى المرور بمراحل نمو فيها عقبات هائلة، لابد للشعوب من تجاوزها بعد أن تخوض تجارب قاسية تعرّضها لخسائر وتضحيات في الارواح والممتلكات قد تكون كبيرة في بعض الاحيان.
العراق لا يختلف عن غيره في قضية المرور بهذه المراحل، فالشعب العراقية يطمح كغيره من الشعوب الى التطور، ولكن مثل هذا الهدف لا يمكن أن ينجز من دون الاكتواء بنار التضحيات والخسائر المادية والروحية والمعنوية، وهي تضحيات وخسائر تصقل الشعب وتعمّق خبراته، خاصة إذا تعاملت النخب القيادية بذكاء مع العُقَد والمشاكل التي تعترض طريق التقدم الى أمام.
وفي العودة الى عقود مضت، كان العراق غير مشمول بمزايا العولمة، وفي ذلك الوقت كان الشعب العراقي يعيش مأزق الانغلاق الطوعي والاجباري معا، تمثل الانغلاق الطوعي بالحجز والحجر، الذي فرضته الحكومة على الشعب، خوفا على نفسها ومصالحا، أما الانغلاق الاجباري، فتمثل بالحصار (1990-2003) الذي فرضته الأمم المتحدة على الحكومة العراقية، ولكنها في الحقيقة كانت عقوبة للشعب وليس للحكومة التي كانت تتنعم بخيرات العراق (تأكل وتشرب ما تشاء، وتبني القصور، وتسافر الى ما تشاء) متنعمة بأموال الشعب، فيما كان العراقيون يرزحون تحت شروط أقسى حصار عرفته البشرية استهدف الغذاء والدواء وحتى الماء.
ومع كل هذه الموجات المتلاحقة من الضغوط وحالات الإحباط، بقي العراقيون في حالة من الأمل بالتغيير، وفعلا حدث ذلك وتم إزاحة النظام السابق، وبدأت مرحلة دخول العراقيين الى عصر القرية العالمية (العولمة)، وكان الطموح يتصاعد في نفوس الجميع ومنهم النخب، العمال، الفلاحون، المتعلمون، الطلاب، بل حتى بسطاء الناس، بأن عهد الحجر والانغلاق والجوع قد ولّى الى الابد، وأن الآفاق قد انفتحت على وسعها لبناء الدولة العراقية الحديثة، وانتعشت أحلام اليقظة، لبناء دولة عراقية حديثة، يسودها العدل والمساواة وقيم الخير، وتسعى لتحقيق الرفاهية، وتشيع قيم الديمقراطية فتبني مجتمعا متسامحا، محبا للتنوّع، ديمقراطيا، دستوريا، يحترم القانون ويلتزم النظام، مدعوما بنظام حكومي استشاري (ديمقراطي) يتمكن من مواكبة العصر في تأدية الأنشطة السياسية التي ستنعكس نجاحا او اخفاقا على المجالات الأخرى كالاقتصاد والتعليم وما شابه.
انحراف المنحى الديمقراطي
إنه حلم مشروع، تحلم به الشعوب الحية التي تمتلك جذورا تضرب في عمق التاريخ الانساني، ولكن ما الذي حدث فعلا، وهل تحققت فرصة العراقيين في بناء دولتهم الحديثة، أو على الأقل وضع الأسس الصحيحة التي تسرّع في بناء الدولة المدنية القادرة على حماية الحريات والحقوق وإشاعة قيم العدل والمساواة، وترسيخ السلم الأهلي، والتعايش، وتلتزم بالمنهج التعددي، بعيدا عن الإقصاء او الفردية.
فهل تمكن العراقيون من تحقيق هذا الهدف الذي سعت ولا تزال تسعى إليه كل شعوب العالم الطامحة الى التقدم؟، للإجابة عن هذا السؤال سوف نعتمد الأحداث التي رأيناها بأنفسنا وعشنا كثيرا من نتائجها خلال اكثر من عقد أي منذ نيسان 2003، حيث لاحظ العراقيون انحراف المنحى الديمقراطي عن مساره، وشابت حياة الناس لاسيما الفقراء منهم مآسٍ لم تكن تخطر على بالهم، ابتداء من العام الثاني للتجربة السياسية الجديدة،إذ بدأت أحلام اليقظة الوردية، تتحول الى كوابيس مرعبة، بعد أن شرع الإرهاب بضرب جذور وأسس الدولة العراقية الوليدة.
وكان اللعب على ورقة الطائفية هو السلاح الأمضى لأعداء العراق، حيث بدأ الدمار يطول المدن العراقية، بعد أن تصاعد شبح الطائفية وكشّرت الحرب الأهلية عن أنيابها، وتم القضاء بطرق مدروسة، على آمال العراقيين، في بناء الدولة المكتملة، فتحولت بغداد الى مناطق مقطعة الأوصال، معزولة عن بعضها بقطع الكونكريت والجدران العازلة، وصارت الأسواق الشعبية، والساحات العامة، والشوارع، وتجمعات الناس، أهدافا حيوية للإرهاب، بغض النظر عن الجهات او الدوافع التي تقف وراءها بسبب اختلاط الاوراق، وشاء جرائم القتل على الهوية، او حتى على الاسم، وهكذا تم وأد الهدف في بناء دولة تقوم على الدستور وحكومة مختارة من الشعب.
واستمرت الجهات المعادية للعراق وشعبه في تغذية الفتن وبث روح الخلاف حتى تحوّل العراق الى ساحة للصراعات والاضطرابات وشتى انواع القتل، فصار الموت عنوانا عريضا للزمن العراقي الجديد، فأينما تولي وجهك ثمة موت يتربص بك، وفي ظل هذا الخراب المبيَّت، كان السياسيون أكثر الناس جهلا بتحقيق المخارج المطلوبة، لتأمين حياة الناس اليومية، فما بالك حين تطالبهم بوضع أسس لبناء الدولة المدنية القادرة على تلبية متطلبات العيش الكريم، وثمة مشكلة جغرافية سياسية مزدوجة عانى منها العراقيون، تتمثل بالدول الإقليمية والمجاورة جغرافيا، ومحاولاتها الحثيثة لتمزيق هذا البلد.
فرصة بناء الدولة قائمة
من ناحية اخرى، وتطبيقا لمبدأ عدو عدوي صديقي، اجتمع الارهاب والمعادون، للتجربة الديمقراطية العراقية الجديدة، والحسابات الاقليمية، والدولية، وتناسوا خلافاتهم، حيث وحدهم مبدأ معاداة العراق، اجتمعوا جميعا ليجعلوا من العراق خرابا في خراب، والمشكلة التي عقّدت الأمور كثيرا وأضعفت الآمال، معاضدة الفساد الاداري والمالي للارهاب الى يومنا هذا حيث بات هذا المرض الخطير يتساوى إن لم يتفوق في أخطاره على الارهاب الذي يستهدف العراقيين، لدرجة ان الحكومة اعلنت طلبها للمساعدة الدولية في القضاء او الحد من الفساد.
السؤال الذي بات يتردد معناه وصداه بين العراقيين وغيرهم من المعنيين، هل تضاءلت فرص بناء العراق المدني؟، لاشك أن الإجابة تحتاج الى التروي المقرون بدراسة منهجية موضوعية، لما جرى ويجري في الساحة العراقية سياسيا واقتصاديا وأمنيا، وهو موضوع مقالة اخرى سيأتي دورها لاحقا.
ومما تقدم واستنادا الى الوقائع التي رأيناها بأعيننا، فقد تحول العراق الى ساحة مفتوحة للمغانم من دون حماية، فهبّت عليه أفواه الوحوش التي تحيط به، وهجم عليه وحوش آخرون من غابات، وغايات، بعيدة تقع في أقاصي الارض، وبدأ النهش بجسد العراق من قمة رأسه حتى أخمص قدميه، وفي ظل حالة الاستحواذ المتأججة، بات من المستحيل أن تتمكن حكومة ما، أو ساسة معيّنون، من النجاح في بناء الدولة الدستورية العراقية المأمولة، على الأقل في المدى القريب.
أما عندما نبحث في الأسباب التي تمثل إعاقة لتحقيق بناء الدولة المدنية، فهي كثيرة ومتعددة ومتداخلة وبالغة التعقيد، وأولها أنك لم تستعمل كلتا يديك في البناء، فالمعادون (الإرهابيون والطامعون) لم يتركوا الفرصة للعراقيين كي يبنوا بلدهم ويحققوا حلمهم، فالإرهاب يتربص بهم، والفساد وحيتانه والصفقات المشبوهة، السياسية، والاقتصادية وغيرها، لا تقل عن الارهاب خطرا وضررا.
ولكن من الواضح أن الشخصية العراقية على الرغم مما جرى ويجري في هذا الاطار، لا تزال تسعى لبناء الدولة المدنية وتعيد ترميم الذات، كما حدث ذلك على مر التاريخ، وهذا يعني أن العراقيين حتى اللحظة، لم يفقدوا فرصة بناء الدولة الحديثة، ولكن الزمن الذي أُهدِرَ في هذا المضمار، زمن طويل وغال وقد لا يعوَّض، بمعنى أن التباطؤ في بناء الدولة، ليس في صالح العراقيين، حتى الآن، أما مسؤولية ذلك، فهي موزَّعة على الجميع، لاسيما أولي الأمر والنخب الواعية والطبقة السياسية التي تتحمل الوزر الأكبر في كل ما يحدث للعراق والعراقيين.
اضف تعليق