العراقيون في طور بناء دولتهم، لذلك يحتاجون الى المؤازرة والخبرات لجعل هذا البناء قائما على معايير وأسس راقية، أول هذه الأسس هو أن نثق في بعضنا البعض، وأن تكون الثقة قيمة محترمة يتمسك به المجتمع ويتعامل بها، واذا ظهر العكس من الفرد او الجماعة فهنالك حلول مناسبة في حينها، في السياسة نحتاج الثقة، لأن السياسة تضم صنّاع القرار، وهؤلاء يأتون من مكونات المجتمع كافة، فالتعامل بيقين وثقة فيما بينهم، يعني تسيّد حالة الانسجام بين الجميع.
والثقة بحسب المختصين هي علاقة اعتماد بين اثنين، الشخص المؤتمن عليه من المفترض ان يفى بوعده، والثقة هي رمز وقيمة اخلاقية وايفاء بالوعود، وتتضمن عدم الشك في الشخصية الجيدة، أو اخلاق الشخص الاخر، ولا ينبغي ان تكون موجودة في الأشخاص ممن يتحلون بالنوايا الحسنة فقط، فالثقة هي توقع النوايا الحسنة في الآخر، وهي مبنية على معرفة المرء بالناس الذين يتعامل معهم او يجمعهم جوار او عمل او دراسة.
وهناك اقوال كثيرة كتبها مختصون في هذا المجال، فقد قالوا عن الثقة أنها تمثل جسر الحياة الصحيح وأن تحظى بثقة الآخرين، فهذا خير لك من أن تحظى بحبهم. أي أن الثقة هنا تقدمت على حب الآخرين لك، لدرجة أن بعضهم يخاطب صديقه او من يعمل معه في مجال واحد، أنا لست حزيناً لأنك كذبت علي، بل أنا حزين لأني لن أستطيع تصديقك بعد الآن.
في السياسة نحتاج الى الثقة، هذا ما يقوله السياسيون أنفسهم، فحالة الشك والتوجس من الآخر، لا يمكن أن تفح آفاق العمل السياسي الصحيح، ولكن ينبغي أن توضع قواعد ثابتة ومعروفة للعمل السياسي، لا ينبغي القفز عليها او تجاوزها، لأن الوضع السياسي سوف يرتبك وتسوء الأمور لتصل الى درجة الفوضى، من هنا ترتفع الدعوات في العراق حول ميدان العمل السياسي، تطالب العاملين في هذا الميدان بالتزام قواعد اللعبة وعدم الخروج عليها.
بعد نيسان 2003 توقع العراقيون أنهم مقبلون على حياة النعيم بعد أن تخلصوا من الجحيم، ولا زلت أتذكّر حتى هذه اللحظة فرحة ذلك الشاب وهو يحادث صديقه عبر جهاز نقال مداه (5) كم فقط، كان الشاب يقول لصديقه (ها أنني أتكلم معك بالنقال بعد أن دخلنا عصر الحرية والاستقرار) وكانت علامات الفرح تطغي على وجهه، حدث هذا بعد 20 ابريل/ نيسان 2003 بأيام قليلة، إنه مشهد يفصح فعلا عن دخول العراقيين الى عصر آخر، أما استخدام الشاب للنقال، فكان بمثابة الدلالة الواضحة التي تدل على انتقال مثل هذه الاجهزة اللاسلكية من السلطة الى الشعب، وبالتالي انتقال السلطة نفسها الى الشعب.
من الجحيم الى النعيم!!
إن امتلاك مواطن عادي لجهاز من اجل التخابر به مع اهله او اصدقائه الموجودين في الخارج، مثلت للعراقيين حالة جديدة من التعامل مع السلطة، ومثل هذه المؤشرات زرعت الأمل في نفوس الشعب بتغيير حياته نحو الأفضل، ولكن فقدان الثقة بين مكونات الطبقة السياسية قاد الأمور من سيء الى أسوأ، واشتعل اول التناقضات بل الحرب بين السياسيين وفقا للانتماء الطائفي او العرقي، وانعكس ذلك على الشارع.
يتذكر العراقيون عندما فقد السياسيون الثقة في بعضهم البعض، كيف تحولت مكونات الشعب الى أضداد متحاربة مع بعضها، لتصل الامور الى أسوأ ما يمكن عندما شاعت ظاهرة القتل على الهوية، وعندما ظهرت تسميات لبعض المناطق مثل (مثلث الموت)، ان فقدان الثقة بين السياسيين حرم الشعب من تجريب السلطة والتعامل معها وكأنها كأي شيء عادي يمكن التعامل معه بوضوح وثقة بعيدا عن الخوف.
كان العراقيون يأملون بحكومة تزرع الثقة بين مكونات الشعب، بعد أن ينجحوا في زراعتها وتجسيدها فيما بينهم وهم يتعاطون السياسة وادارة شؤون العراقيين، ولكنهم لم يتمكنوا من نقل السلطة الى الشعب، فانطلق سؤال واضح، بعد مرور تسع سنوات على انتقال العراقيين الى مرحلة التحرر، هل انتقلت السلطة الى الشعب فعلا؟؟ إن الاجابة الدقيقة تتطلب استقراءً دقيقا وصحيحا للمشهد السياسي العراقي وخطه البياني المتذبذب صعودا وهبوطا منذ لحظة التغيير حتى الآن، والامر كله يتعلق بالاحزاب والكتل والشخصيات السياسية والعلاقات المتبادلة بينها، وطبيعة هذه العلاقات، وهل أنها قائمة على الثقة المتبادلة أم على الصراع والتناحر؟.
في الحقيقة لا توجد ثقة بين المكونات السياسية فانعكس ذلك على مكونات الشعب المتنوعة، ويستطيع المتابع أن يرصد غياب الثقة بين السياسيين، وهو أمر بالغ الوضوح، هذا الغياب الخطير لجسور الثقة بين قادة الاحزاب والكتل السياسية، ينعكس بدوره سلبا على الشعب، فالصراعات والمماحكات بين السياسيين تجري في مؤسسات الدولة، منها ما هو معلن وهناك ما يجري منها في الخفاء، فقد تحول البرلمان العراقي مثلا، وهو مؤسسة مدنية مهمة، الى ساحة لتصفية الحسابات بين السياسيين، وقد أصابت هذه الصراعات مصالح الشعب العراقي في الصميم، ويحدث مثل هذا التضارب في مؤسسات أخرى، بسبب غياب الثقة بين أصحاب القرار، واللهاث المحموم خلف المناصب والسلطة والمال والجاه مع نسيان واهمال لمصالح الشعب، او بناء خطط استراتيجية تحمي الدولة من الانزلاق نحو التفكك والضعف.
مدّ جسور الثقة بين الشعب والسلطة
وكان لفقدان الثقة تأثيرا مباشرا على النتائج التي لم يكن يتوقعها العراقيون بعد التغيير، لذا من المؤسف حقا أن تُهدَر حقوق الشعب وتضمحل أحلامه بدولة مدنية، بسبب فشل السياسيين في بناء جسور الثقة المتبادلة بينهم، في حين بدت مكونات الشعب الأخرى أكثر قدرة على التقارب وبناء الثقة المتبادلة فيما بينها، كما حدث مؤخرا في عقد الاجتماع العشائري في كركوك، والذي جمع بين عشائر ومكونات عربية وكردية وتركمانية، استطاعت أن تكسر حاجز الخوف من الآخر، وتتقارب مع بعضها، وتجلس تحت خيمة واحدة وتعطي رسالة واضحة لجميع القادة السياسيين، بأن الشعب العراقي بأعراقه ومكوناته الكثيرة عبارة عن كتلة واحدة، تجمعها روابط كثيرة لا يستطيع السياسيون أن يدمروها، بسبب صراعاتهم وانشغالهم بما يرغبون من منافع مادية لا تعدو كونها مآرب قابلة للزوال السريع.
هل يبذل الساسة او الطبقة السياسية بمجملها، ما يكفي من الجهد لإعادة زرع الثقة فيما بينهم؟ ومن ثم انتقالها الى النسيج الشعبي الجماهيري المتماسك، من هنا على القادة السياسيين وكتلهم وأحزابهم، أن يصححوا الأخطاء الجسيمة التي وقعوا فيها، وأن يتحركوا بسرعة لرأب الصدع الخطير بينهم، وهو قد بدا واضحا للجميع، ولابد أن يفهموا ويعرفوا أن الشعب العراقي ليس مستعدا لمنحهم المزيد من الوقت لادامة صراعاتهم، بل لم يتبق أمامهم سوى القليل من الوقت، لكي يتقاربوا ويتفاهموا أكثر فأكثر، وأن يفهموا فعلا بأن الثقة هي وحدها القادرة على إعادتهم للمسار الصحيح.
كذلك ينبغي على الطبقة السياسية ان لا تكتفي بمد جسور الثقة فيما بينها، بل عليها الانتقال من هذه الخطوة (تثبيت الثقة داخليا)، الى الخطوة الأهم وهي ان تكسب ثقة الشعب بها، وهذا الأمر من الأهمية بمكان بحيث تترتب عليه نتائج خطيرة، أهمها نجاح او فشل الطبقة السياسية في بناء الدولة، ويمكن لهذه الطبقة المخولة بصلاحيات كبيرة أن تبني الدولة بالفعل اعتمادا على نشر مبدأ وقيمة الثقة التي يمكنها أن تسهم في بناء الدولة العراقية والمجتمع العراقي أفضل بناء.
اضف تعليق