تكاد تقوم حياة الانسان بصورة شبة تامة على الأضداد داخليا، أي بين الانسان ونفسه والافراد في محيطه، وينسحب هذا على الفضاء الخارجي كما نلاحظ في المجموعة الشمسية والكواكب التي تتواجد في مداراتها، والليل والنهار، وانتشار النجوم في صفحة السماء، وتعاقب الفصول بين حر وبرد، وأجواء معتدلة وحادة، والتنقّل بين النماء ربيعا، والضمور خريفا، كل هذه الظواهر قائمة على التضاد بصورة واضحة، كما نلاحظ التقابل بين الليل والنهار مثلا، وبين الشروق والغروب، وبين الصيف والشتاء، وبين الضوء والظلام، وهكذا نلاحظ أن الحياة تقوم على ما يخدم الانسان وما يقف بالضد منه، فالسلطة عندما تكون مستبدة ستقف بالضد من مصالح وحقوق الناس، يقابلها الكفاح الانساني للحد من سطوة السلطة، ومن أهم المؤسسات الكفاحية هي الحوزات العلمية التي تضع في مقدمة أهدافها كبح غرور السلطة وتحجيم رموزها، ومقارعة أفعالها التي تنطوي على ظلم وقمع وما شابه.
وهكذا تأخذ الحوزات العلمية دورها ومكانها وحضورها الأساس في مقارعة السلطة، كونها تقف شرعيا ضد الحاكم الظالم، لأنها وفقا لما يرد من تعاليم في النصوص القرآنية، ﴿وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ﴾، فيتمثل دورها الرئيس في الوقوف ضد القمع والظلم والتكميم والاقصاء والتجاوز على الحريات والحقوق، وهذه هي سمات الانظمة السياسية الدكتاتورية، كما حدث ابان الحكم الصدامي العراق، ومقارعة الحوزات العلمية لهذا النظام وصمودها الكبير ضد سياساته، حيث قدمت الحوزات عددا من المراجع العظام شهداء على طريق الكفاح ضد السلطة الغاشمة، عندما أيقن نظام صدام في العراق خطر الحوزات العلمية على مصالحه وسياساته بل وحتى على وجوده، فلجأ ذلك النظام الى الحل الأخير بعد ان فشلت الاساليب الاخرى في اقناع الحوزات ورجالاتها بالاصطفاف الى جانب الظلم، فبدأت السلطة الصدامية بسلسلة من الاغتيالات طالت كبار المراجع في الحوزات العلمية، كما حدث مع السيد الشهيد محمد باقر الصدر الذي أعدمته سلطات الطاغية في 1980م، ليلتحق به شهيدا، السيد محمد محمد صادق الصدر عام 1999م، وكذلك تم استهداف الشيخ الشهيد الغروي عام 1419هـ حيث قام ازلام النظام بتصفيته على طريق كربلاء- نجف، وما هذه الكوكبة من الشهداء الأجلاء من المراجع والعلماء الأفاضل الذين تمت تصفيتهم جسديا بواسطة الاجهزة الأمنية للنظام القمعي الصدامي، سوى دليل قاطع على الدور المؤثر للحوزات العلمية في مقارعة اساليب الترهيب التي اعتمدتها الانظمة السياسية المستبدة، بعد أن فشلت معها اساليب الترغيب والاستدراج وما شابه.
وقد استمر دور الحوزات العلمية تصاعديا في الوقوف بالضد من الانظمة التي لا تؤدي واجباتها التنفيذية بصورة صحيحة ازاء الشعب، ولهذا تمارس الحوزات اليوم دورا كبيرا لترسيخ استقلال الشعب، فاستطاعت ان تحقق عدا من الاهداف المهمة على الصعيدين السياسي والاجتماعي، كما يلاحظ المراقبون ذلك في الخطوات التالي التي تصدت الحوزات العلمية لتحقيقها، وكما يلي:
- تدخلت الحوزات العلمية بطريقة سليمة وحاسمة لترسيخ مبدأ التداول السلمي للسلطة في العراق، ولعل ما حدث من انتقال سلمي للسلطة في العراق من شخص الى آخر لهو أفضل دليل على دور الحوزة في ترسيخ هذا المبدأ السياسي الجوهري.
- وقد تدخلت الحوزة العلمية في المناسب تماما، واستطاعت أن تحصّن العراق من خطر الانهيار الوشيك، ضد عصابات داعش، حيث تحوّل الموقف لصالح السياسيين والشعب العراقي عموما عندما تدخلت الحوزة العلمية ومنعت حالة الانهيار.
- وقد ازداد دور الحوزات العلمية قوة وثباتا، بقوة مبدأ (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، فمنعت بذلك الانحدار الذي تعرضت له الحكومة والعملية السياسية برمتها.
- استطاعت الحوزة العلمية من الثبات على مبادئها، ورفض التبعية للسلطات التي حاولت ذلك مستخدمة شتى الاساليب، وهذا دليل على هيبة الحوزة وقدرتها على الثبات وكسب الجماهير الشعبية كونها تقف الى جانبهم بالضد من النظام السياسي الذي لا يعبأ بالشعب.
- تمكنت الحوزة العلمية من تأسيس مؤسسات ذات تخصصات مختلفة، ترتبط هذه المؤسسات بعلاقات جيدة ووثيقة مع منظومة الاعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، بالإضافة الى علاقاتها بمنظمات المجتمع المدني، ومنظمات حقوق الانسان وسواها، بما يخدم مصالح الشعب.
- ومن المهام الاساسية للحوزات العلمية التوحد فيما بينها وتوحيد الآراء والاهداف ضد أي خرق سلطوي يهدد حقوق الشعب وحرياته، ولابد من حماية الحوزات من أي اختراق يثير الشبهات.
- من الامور المهمة ان تحافظ الحوزات العلمية على الأسس التاريخية التي قامت عليها منذ مئات السنين، وعدم السماح للحكومة من اختراقها او محاولة تدميرها او الاساءة لها.
- عدم نسيان الهدف الأساس للحوزات العلنية والمتمثل بالحفاظ على حقوق الشيعة وعدم التفريط بها تحت اساليب الترهيب التي غالبا ما تعتمدها الحكومات القمعية بعد فشل اساليب الترغيب في تحقيق ضالتها.
هذه هي المهام التي ينبغي أن يتم التصدي لها وانجازها على الوجه الاكمل، بالاضافة الى ما تحقق من انجازات فعلية على طريق تعميق العلاقة الشعبية بالمرجعيات الدينية والحوزات العلمية، في تحالف لا فكاك منه، وفي موقف المراقب لسلوك السلطة والضغط الدائم عليها بغية تصحيح الاخطاء، وعدم المساس بالحريات والحقوق المتعارفة والمنصوص عليها في الدستور والقوانين المشرَّعة، وكذلك لابد من اتخاذ سياسة الحذر تجاه الاساليب التي تبذلها السلطة من اجل استدراج المعارضين لها كي يصبحوا تحت سطوتها واهدافها.
اضف تعليق