عندما يعيش الإنسان في ظلام دامس، ولا أمل له في بصيص نور، ولا ضوء، حينئذ لا يبالي بالحياة، حاضرا أو مستقبلا، لأنها ستكون بلا قيمة تُذكر، ولكن عندما يكون لديه أمل وشعور بالقدرة على التصحيح والتغيير، فإن هذا الأمل والشعور سوف يمنحانه نوعا من الصمود في مواجهة المصاعب، ويدفعانه نحو المواجهة من أجل التغيير.
أفضل ما حققه الشعب الراقي من محاسن وانجازات بعد نيسان 2003، هو مكسب حرية الرأي، فالمواطن والمفكر والكاتب، بإمكان أن يعلن رأيه من دون خوف، وهذا خفف كثيرا من النواقص التي تضج بها الدولة بسلطاتها الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية، فعلى الرغم من انتشار الفساد في دوائر الحكومة وبعض مؤسسات الدولة، وعلى الرغم من تحكم رؤوس الفاسد ببعض مفاصل حركة المجتمع، إلا أن حرية الرأي قللت من تلك الضغوط.
ومع تطور وسائل الإعلام، وتنوع وسائل الاتصال، وانتشار صفحات التواصل الاجتماعي، بات الخبر والمعلومة والرأي في حلٍ من قبضة السلطة، وصارت الحكومة تحت الأضواء التي يمكنها كشف كل الأخطاء التي تقع فيها الحكومة، وأسهمت وسائل التواصل الاجتماعي بتكون جماعات ضغط مؤثرة على الحكومة والسلطة، وبات مصدر قوة للمواطن، بحيث لا يمكن بعد اليوم، التكتم على أخطاء الحكومة او السلطات الأخرى.
وهذه المزايا في حرية الرأي أعادت للمجتمع والمواطن ثقته بنفسه، وكرامته، وشعوره بالاعتداد بنفسه، فخفف ذلك من ثقل الفساد والتجاوز على الحقوق وما شابه، حيث لا يبقى المواطن مكتوف الأيدي، بل يسارع الى نشر رأيه في صفحات الفيس بوك او تويتر او اليوتيوب وسواه، لتشكل مثل هذه المنشورات ضغطا كبيرا على السلطات الثلاث كونها تجعل الرأي العام عارفا بكل الأخطاء والانتهاكات التي ترتكبها.
إذاً هذا الهامش من حرية الرأي، يشكل للشعب هامشا حرا ينفّس عن الضغوط التي يتعرض لها المواطن أو الجماعة، من لدن رؤوس الفساد التي تتجاوز على حقوق المواطن، ولذلك من غير المقبول تكبيل هذه الحرية، او محاصرتها بقرار تشريعي او بنص قانوني يمنع المواطن او الجماعة التعبير عن معارضتهم لهذا الإجراء الحكومي او ذاك.
اعتراض لجنة الإعلام النيابية
منذ أكثر من سنة تم إعداد هذا القانون من اجل التصويت عليه في مجلس النواب، وإقراره ضمن سلسلة تشريعات تحاصر الرأي العام وحرية الرأي، وغالبا ما كان القانون الخاص بالجرائم المعلوماتية يواجه سلسلة من الاعتراضات الشديدة، خوفا من إعادة الدولة الى (النظام البوليسي).
وهذه الاعتراضات تبدأ من داخل مجلس النواب نفسه، ونعني بذلك لجنة الثقافة والإعلام النيابية التي سرعان ما تعلن رأيها الرافض لهذا القانون او بعض بنوده التي لا تتوافق مطلقا مع حرية الرأي والحفاظ على هذا المكسب الذي قلنا بأنه يخفف من وطأة الأخطاء السياسية والإدارية التي تضاعف من مصاعب حياة الشعب.
فعلى سبيل المثال حملت لجنة الثقافة والإعلام النيابية مجددا، على قانون الجرائم المعلوماتية بعد إرساله من مجلس الوزراء الى البرلمان لإقراره بوصفه "إعادة للنظام البوليسي الى العراق" بحسب وصف رئيسة الثقافة النيابية، التي قالت "أن القانون اخذ بالنظر الجوانب الأمنية من دون الاهتمام الى ما نص عليه الدستور من الحريات المدنية للمواطن". وتساءلت رئيسة اللجنة المذكورة "هل تريد الحكومة الإساءة الى مجلس النواب بإرسال هكذا قانون إليه". وفي معرض رفضها لهذا القانون، قالت رئيسة اللجنة المذكورة: "لن نسمح بأن يتحول العراق الى منظمة بوليسية تراقب المواطن لأن الجانب التشريعي في القانون كبير جدا ولا يتلاءم مع الحق الفردي".
إن مثل هذه الاعتراضات، لا تمثل الجانب الرسمي فحسب، وليس اللجنة النيابية هي وحدها التي أشكلت على مضامين هذا القانون المثير للجدل، لاسيما بعض النصوص الفضفاضة التي تترك مجالا واسعا للقضاء كي يحدد ماهية الجريمة التي يتم ارتكابها بخصوص الأمن الوطني، فضلا عن شدة العقوبة الجزائية التي تصل الى حد السجن المؤبد، والغرامة المالية التي تصل بحسب بعض مصادر الإعلام من 25 الى 50 مليون دينار.
ومن المعروف أن رئيسة الثقافة البرلمانية كانت قد هاجمت القانون العام الماضي أيضا بقولها: "ان مشروع قانون جرائم المعلوماتية المقدم من قبل الحكومة السابقة يضم نصوصا قاسية وعقابية تحد من التداول الحر وحق الوصول الى المعلومة ويحول الدولة الى دولة بوليسية وهو قانون صارم على المواطن العادي ، فيما هو بعيد عن الإرهابيين الذين يستخدمون الوسائل التقنية بحرفية عالية". وأضافت في قولها: "هناك حملة منظمة لقمع الحريات والتضييق على التعددية الفكرية وحق التعبير عن الرأي، سواء من خلال بعض مواد مشاريع القوانين ومنها قانون الأحزاب وقانون جرائم المعلوماتية وقانون حرية التعبير عن الرأي والتظاهر السلمي، او من خلال الإجراءات الأخرى" على حد وصفها .
ومع ذلك لا تزال النصوص المثيرة للجدل، تدخل ضمن هذا القانون، مما أثار مخاوف الإعلاميين والمثقفين وأصحاب الفكر الحر، من التضييق على حرية الرأي، والعودة بالعراق الى المربع الأول، بعد أن قطع مشوارا جيدا في هذا المجال، ومن حق الجميع الخشية على (الضوء) الذي من خلاله يستطيع العراقي وهو يعيش في (ظلام الفساد)، أن يرى بصيص أمل قادم، يجعل من حلم بناء الدولة المدنية الحامية للحقوق أمرا ممكنا.
الجميع معنيون بالدفاع عن الحرية
هل نحن نبالغ في هذا المجال، وهل نغالي في الخشية والخوف من تمرير هذا القانون او سواه من القوانين التي تسعى لمصادرة أهم مكسب حققه العراقيون بعد نيسان 2003، علما أن هناك من لا يرى أية فائدة من حرية الرأي طالما أن المسؤولين يغلقون اذانهم بالقطن، كي لا يسمعوا ولا يطّلعوا على مناشدات المواطنين وتنبيههم المسؤول على تقصيره بحق الدولة والشعب.
ومع ذلك ينظر العراقيون الى حرية القول والرأي باعتباره أهم مكسب حققه الشعب، كونه يمثل بوابة التغيير نحو الأفضل طالما أن المسؤول يبقى تحت مطرقة الصوت الصادق والصريح للمواطن بخصوص التقصير او الخطأ الذي يرتكبه المسؤول بحقه، لهذا السبب فإن المعني بحماية حرية الرأي، ليس اللجنة النيابة للثقافة والإعلام في مجلس النوب ولا رئيسة هذه اللجنة، نعم يحق لهم أن يدفعوا الظلم عن المواطن.
ولكن المسؤول الأول والأخير عن حماية حرية الرأي والإعلام وصوت المواطن، هو الشعب ومن ثم تأتي ادوار الآخرين اذا كانت هناك ادوار قادرة بالفعل على تحقيق هذه الحماية، ولكن الشعب بوصفه الفضاء الأوسع لساحة الدفاع، يحتاج الى مؤازرة المنظمات الحقوقية، والنخب الثقافية والدينية والفكرية والإعلامية وسواها، فمثل هذا الدعم يجعل الشعب أكثر صمودا وقدرة في مواجهة التعنت الحكومي في معركة الدفاع عن حرية الرأي والإعلام.
وخلاصة الدول، الطبقة السياسية ينبغي أن تتحلى بكثير من الحنكة والذكاء، كي لا تغامر بالدفع نحو إقرار هذا القانون (القامع) للحريات، لسبب واضح وبسيط، أن هذه الطبقة لم تحقق منجزا يشار له بالبنان للشعب العراقي، بل بصراحة هذه الطبقة (بقصد او من دونه)، أساءت للشعب، وعليها أن تخفف من سخط العراقيين عليها وتذمرهم منها.
ولعل عدم تمرير قانون (جرائم المعلوماتية)، ومعارضته وعدم التصويت عليه، قد يقارب بين الطرفين، وربما يؤدي هذا الرفض - فيما لو اتخذته الطبقة السياسية موقفا لها- الى مد جسور الثقة بين الشعب من جهة والطبقة السياسية من جهة أخرى، وحتما سوف يساعد ذلك على بناء دولة العراق، في سياق المنهج السياسي الإداري التعددي اللامركزي المتحرر.
اضف تعليق