في السنوات الاولى من الاطاحة بنظام صدام، ونشوء النظام الجديد في العراق، اتصل بي صديق من خارج البلاد يستعلم الافكار الجديدة لمشاريع تنموية للتعويض عما فات، فبلغ الحديث فكرة إنشاء مطارات دولية في بعض المدن ذات الابعاد الحضارية والثقافية العالمية، مثل مدينة كربلاء المقدسة وأمثالها، فقاطعني على الفور متحفظاً على الفكرة، لأن المطارات – عادة- تمثل بوابة كبيرة للتواصل العالمي، وهذا لن ينجح إلا لمدن تستوفي معظم المواصفات للنجاح في أمر التواصل، من تحديد وبلورة للهوية الثقافية، و رؤية اقتصادية تتطلع الى آفاق التنمية والتطور، وبخلاف ذلك، يعني عدم التناسب بين مدينة حديثة العهد بالانفتاح، وبين عالم فسيح يعجّ بتطورات متسارعة في شتى الميادين.
وهذا تحديداً ما تحذر منه الشعوب والدول في تعاملها مع العالم، فهي تتحقق بدايةً من قاعدتها الثقافية وتماسكها الاجتماعي وبنيتها التحتية وكل مواصفات القوة والمنعة، قبل ان تفتح ابوابها على الثقافات والاسواق وسائر المشتركات الاخرى.
وهذا ايضاً ما نحتاجه نحن في العراق الغني بالتراث والتربة الخصبة والمياه واليد العاملة الشابّة وكل ما من شأنه ان يتحول الى نافذة واسعة للتعارف والتبادل الثقافي والاقتصادي وغيره.
ومن جملة هذه النوافذ الواسعة التي تم تسليط الضوء عليها مؤخراً؛ الأهوار.
فقد تسابقت رسائل التهنئة والتبريك من افراد وجماعات ومؤسسات ورجال دولة في العراق، على إدراج أهوار العراق ضمن لائحة التراث العالمي، من قبل منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو)، خلال اجتماعها الأحد الماضي بمدينة اسطنبول، وحسب المصادر فان عملية الإدراج هذه لم تأتي على طبق من ذهب! إنما تخللتها "مفاوضات مارثاونية للوفد العراقي مع الجانب التركي الذي كان معترضا بشدة لكنها تكللت مؤخراً وصوت لصالح القرار"، وقد صوّت لصالح العراق لينتصر في هذه القضية؛ دولاً صديقة في المحيط الاقليمي والدولي.
ورغم أن قرار اليونسكو يتضمن فقرات تتعلق بحماية الاهوار من التجفيف من جهات حكومية او غيرها، وحماية البيئة من "الصيد الجائر للكائنات الحية، وحماية الطيور المهددة بالانقراض واعادة تكاثرها عن طريق توفير بيئة مائية مستقرة"، ولكن؛ من الصعب الابتعاد عن الاسقاطات السياسية الواضحة على هذا القرار، في ظل المعطيات الاخيرة والتحولات المتسارعة في الساحة، فان المهم النتيجة؛ وهي تولي المنظمة الدولية مسؤولية الحفاظ على الاهوار، وتحديداً ملف المياه فيها، إذ من المعروف أن مياه الاهوار، هي خلاصة مياه نهري دجلة والفرات، وما يعانيه العراق في هذا الملف تحديداً عدم وجود لغة تفاهم او صيغة اتفاق مقبولة مع الجانب التركي للحصول على حصص مائية عادلة لنهري دجلة والفرات، وهو ما ترك تأثيره على مياه الاهوار، وإذن؛ فان اليونسكو سيكون الصوت العالمي المؤثر على تركيا لتعيد النظر في قراراتها المجحفة بشأن ما يصل الى العراق من نسبة مياه من النهرين.
الأهوار عراقية
قبل الحديث عن المياه والطيور النادرة او المهاجرة من البلاد البعيدة، والاسماك والاعشاب المائية وغيرها من معالم الطبيعة، يجدر بنا الالتفات الى حقيقة وجود الانسان ايضاً في هذه البقعة المنسية من أرض الوطن، ففي الاهوار هنالك شريحة اجتماعية تعيش منذ أمد بعيد، ربما يمكن القول: أنها عانت شظف العيش اكثر من اقرانهم من ابناء المجتمع العراقي في المناطق الاخرى، لان الاهالي هناك بقوا على نمط معيشتهم البدائية، رغم إن العراق وصله الكهرباء والهاتف وشبكة المياه الصالحة للشرب والتلفاز البناء الحديث وغيرها من مظاهر العصرنة وحتى عقود من الزمن، وحتى كتابة هذه السطور ما يزال سكان الاهوار يعانون؛ اضافة الى نقص الخدمات العامة، مثل الكهرباء، الى أبسط سبل العيش الكريم، من شبكة مياه الشرب ومدارس ومستشفيات وطرق.
وحتى لا نطيل المقال بذكريات مؤلمة من جرائم النظام البائد، او نستذكر الامن والاستقرار و الايام الجميلة للاهوار في العقود الماضية، فالمقام يستدعي تسليط المزيد من الضوء على الوضع الراهن لاهالي الاهوار الذين عادوا تدريجياً منذ عام 2003، على أمل ان يشهدوا حياة جديدة كونهم اصحاب فضل في تحقيق ما حصل من تغيير كبير، بيد أن عودة المياه الى الاهوار الجافة ومعها عودة الاسماك والطيور وانتعاش الطبيعة والبيئة، لم يصاحبه انتعاش – ولو نسبي- في العيش، فحسب المصادر، عاد حوالي 20ألف من سكان الاهوار، بعد ان كانت تضم حوالي 500ألف انسان قبل تجفيفها، فالحياة في الاهوار لم تعد الى لحوالي 65% من مجمل المساحات المائية المنتشرة في المحافظات الثلاث؛ العمارة، والناصرية والبصرة.
أما عن مصدر دخل سكان الاهوار حالياً فهو يرتكز بشكل اساس على تربية الجاموس وما يدر عليهم من مادة الحليب الدسم، وقصب البردي الذي يعد مادة أولية لصناعة الحصير والبواري ويدخل في هندسة البناء الخاص بتلك المناطق، أما الثروة السمكية، فلم يبق منها الاسم والشهرة، حيث يقول أحد الصيادين: "كنا في السابق نصطاد ما يصل الى 100 كيلوغرام من مختلف انواع الاسماك الجيدة، أما الآن فلا نصطاد إلا عشر هذه الكمية يومياً"، ويتحدث آخرون عن الامراض التي يتعرض لها الجاموس، وقلة العلف الحيواني والوقاية من الامراض، الامر الذي ترك أثره السلبي على منتوج الحليب، وهذا وغيره، يعني تعرض الثروة الحيوانية الغنية وايضاً الثروة السمكية، الى خطر التناقص والزوال، مع زيادة نسبة الملوحة في المياه وانتشار الامراض والاوبئة والإهمال في أمر العلاج والوقاية، والاهم من كل ذلك؛ وقوف اهالي الاهوار على حافة الافلاس والفقر، مما يدفعهم الى هجران المنطقة الى حيث العمل وسبل العيش الكريم.
بأزاء كل هذه المعطيات والاستحقاقات، نقرأ خبراً عن تجول السفير الفرنسي في أهوار الجبايش شرق محافظة الناصرية، وهو يتحدث – اضافة الى مسألة إدراجها في التراث العالمي- يشير الى أن "الحضور الفرنسي في ذي قار يرتبط بعدة جوانب اقتصادية وثقافية وسياسية وتوثيق اواصر العلاقات بين الجانبين في المجالات كافة".
واللافت جداً في خبر هذه الزيارة الرغبة الجامحة لمحافظ العمارة لدخول الاستثمارات الفرنسية في مناطق الاهوار في محاولة لإحيائها اقتصادياً وسياحياً وبيئياً! علماً أن هنالك جهة مختصة في الدولة العراقية تحت اسم "مركز إنعاش الأهوار" تابع لوزارة الري، وتأسس عام 2005.
واذا ما قيل عن الخبرات الاجنبية في أمر إنعاش الاهوار، فان الواقع الذي يعيشه الاهالي هناك يؤكد أن المهمة بالدرجة الاولى حالياً تقع على عاتق الحكومة العراقية، بما تملك من امكانات ضخمة للمساعدة على إعادة البنية التحتية لاقتصاد الاهوار قبل الحديث عن مناسيب المياه الواصلة الى المنطقة، فايجاد مراكز للطبابة البيطرية لحماية الثروة الحيوانية من التناقص، وتشييد المدارس الحديثة بمواصفات مطلوبة صحياً وادارياً، وتوصيل مناطق الاهوار بالطرق وشبكة المياه وغيرها من خدمات بسيطة، لا علاقة له بمنسوب المياه في مناطق الاهوار، كون القضية ترتبط بمد وجزر في العلاقات الثنائية بين العراق والدول ذات العلاقة.
اليونسكو ومهمتها الحقيقية
اذا اعتقد البعض – او الغالبية العظمى- بأن تولي اليونسكو أمر الاهوار، يعني ضمان تدفق المياه الى الاهوار بما ينعشها ويعيد الحياة الطبيعية اليها، عليهم ان يدركوا ايضاً المهمة الاساس لهذه المنظمة؛ هو التعليم والثقافة، كما جاء في تسميتها، فالضغط على الجانب التركي بتوفير الحصة المقررة دون نقصان لمياه دجلة والفرات، يتطلب اياماً معدودة، ولن تكون هذه المنظمة حارساً على ضفاف الرافدين على طول الوقت لضبط المنسوب المطلوب للنهرين! بيد ان الدور الاساس الذي ستضطلع به، هو رعاية الجانب التعليمي والتربوي لهذه المناطق، ولن يكون لأحد، بعد ذلك، الحق في إبداء الملاحظة على هذا البرنامج او تلك الفكرة التي تأتي بها الى اهوار الجبايش او الحمار او الهويزة وغيرها، لانها تعمل وفق تخصصها ، وبما خولها العراقيون انفسهم.
لذا فان الانعاش الاقتصادي يجب ان يوازيه اهتمام بالجانب الثقافي في مناطق الاهوار، وهذه المسؤولية لا تقع فقط على كاهل الحكومة والدولة، بل يمكن ان يسهم فيه افراد المجتمع من اصحاب الكفاءات والقدرات المالية والعلمية، مثل الاطباء والمهندسين والمدرسين وغيرهم، لمد يد العون الى هذه المناطق التي طالما نتحدث عن عمقها الحضاري وتاريخها وطابعها التراثي الرائع وجاذبيتها وغيرها من المميزات على الخارطة العراقية، وهؤلاء لن يكون دورهم الثقافي والتربوي والتنموي بأقل من اليونسكو او أي منظمة دولية أخرى.
اضف تعليق