عندما نلقي نظرة على مناطق العالم المختلفة، ونعني بالمنطقة هنا هي الرقعة الإقليمية التي تتواجد فيها عدة دول، تتجاور وتعيش فيها، فتكون لهذا الجوار تأثيرات ثقافية وسياسية واقتصادية وبيئية وحتى أخلاقية، فالجار كما يقول أهلنا (قبل الدار)، أي عندما تقرر إحدى الأسر بشراء دار للسكن، فإن السؤال الأول الذي سوف يتبادر الى ذهن الأسرية المشترية هو (الجار)، هل جارهم في دارهم الجديدة جيد أم مشاكس ومؤذي؟؟.
هذا الأمر غير متاح للدول، فالدولة لا يمكنها أن تغادر بشعبها الى رقعة أخرى من الأرض، ولذلك تبقى دول الجوار مفروضة عليها في جميع الحالات الجيدة والمسيئة، أما الأسرة فإنها تمتلك خيارت كثيرة لتبديل أو اختيار مكان الدار، من هذا المثال نريد أن نصل الى أن الدولة الجارة كلما كانت ملتزمة بقواعد الجوار السليمة، وكلما كانت متعاونة وايجابية، فإنها سوف تكون سببا في حياة أفضل للدول الأخرى.
العراق تحيط به مجموعة من الدول، هذه المجموعة من الدول (العراق، تركيا، إيران، السعودية، الكويت، سوريا، الأردن، بالإضافة الى بعض الدول الإقليمية الأخرى، أطلق عليها المعنيون تسمية (الشرق الأدنى)، من الواضح أن التعاون الإقليمي هنا، يشبه عائلات متجاورة متعاونة مع بعضها، لذلك فإن أية دولة مشاغبة سوف تكون سببا في تعقيد المنطقة الإقليمية كلها.
بطبيعة الحال يشبّه علماء وخبراء السياسة الدولة، بأنها كائن حي، يطمع ويقسو ويخطط ويستحوذ ويتعاون ويتعامل بذكاء أو العكس من ذلك، أي تتصرف الدولة وكأنها إنسان، لها طبائع البشر، ذلك لأن الدولة هي عبارة عن مجموعة من الأفراد (الشعب) المرتبط مع بعضه بثقافة خاصة وتاريخ ودم وأحداث ومواقف والأهم من هذا كله منظومة السلوك والمنظومة الفكرية الثقافية التي توحّد شعب الدولة.
نريد أن نصل من خلال هذا التشبيه، الى أن المنطقة الإقليمية يمكن أن تتأثر بسلوك دولة مشاكسة، ويمكن أن تكون منطقة منسجمة متعاونة مع بعضها، وفق قواعد وأخلاقيات وقوانين يتم الاتفاق عليها بين شعوب هذه الدول، وهي تتشذب مع مرور التاريخ، وتصبح أفضل في حالة توافرت الإرادة الجمعية لدول المنطقة لتحقيق هذا الهدف.
صراع لا تخبو نيرانه
ولا شك أن المشاكل التي تحدث في دولة ما من دول المنطقة الإقليمية، سوف تنتقل حتما الى الدول التي تشاركها المنطقة الإقليمية.
الأمر الغريب في هذه القضية، أننا قلما نجد منطقة إقليمية متوازنة مستقرة متعاونة، لأن توافق الدول الإقليمية مع بعضها، يحتاج الى شروط كثيرة، من أبرزها التزام قواعد الجوار، واعتماد الأخلاق الإنسانية، والتمسك بالقواعد الثابتة للعلاقات المستقرة، والتعاون المشترك، وحل المشكلات بالطرق السلمية، وجعل الحوار هو الأسلوب الوحيد لمعالجة أية مشكلة بين بلدان المنطقة الواحدة.
من الغريب أننا عندما نلقي نظرة على المناطق الإقليمية المتعددة في بقاع الأرض أجمع، فإننا قلما نجد نوعا من الاستقرار والانسجام والتفاهم بين هذه الدول، على الرغم من الإنسان بلغ من الوعي والتطور والرقي مراحل كبرى، وقد مرّت بالعالم أحداث جسيمة في مجال العلاقات المتبادلة، وعندما تناقضت إرادات الدول وتضاربت المصالح في السابق، وعجزت الدول عن تغليب الحوار على منطق القوة، حدثت الحروب الكارثية التي أخذت الكثير من الأرواح والضحايا والخسائر في الممتلكات المادية.
ولا يزال شبح الحرب العالمية الأولى والثانية ماثل أمامنا، ولا تزال أرواح الملايين تئن تحت أدامنا، ولا يزال هذا الدرس طريا الى الآن امام الذاكرة البشرية، وهل يمكن أن ينسى الإنسان جريمة إلقاء القنبلة النووية على مدينة آمنة اسمها (هيروشيما) وأخرى اسمها (ناكازاكي)، ففي لحظات لا أكثر أزهقت مئات الآلاف من الأرواح في حرب مجنونة وصراع مجنون ايضا.
ويبدو أن دروس الحروب الماضية لم بالنتيجة، لم تعطي درسا جيدا لدول العالم، وخصوصا الدول المرتبطة مع بعضها في مناطق إقليمية واحدة، لذا نلاحظ أن معظم تلك المناطق الإقليمية المتجاورة مع بعضها، تكون في حالات ومواقف كثيرة على خلاف سياسي او اقتصادي وما شابه، فلو أخذنا منطقة الشرق الأدنى، سنلاحظ أن جميع دول المنطقة تعيش خلافات مع بعضها، او أنها تدخل في أحلاف مختلفة متضادة مع بعضها، مثلا هناك حرب باردة بين السعودية وإيران في منطقة الشرق الأدنى، وهنالك حروب بالوكالة تجري في العرق وسوريا واليمن، ثمة خلافات بين تركيا وبعض جيرانها، وثمة خلافات بين بعض دول الخليج والعراق.
هذه صورة مصغّرة لما يجري في الشرق الأدنى من مشكلات ينبغي أن لا تسمح لها حكومات المنطقة بالتنامي، لأن نتائجها معروفة سلفا، ولا أحد غالب او منتصر فيها، ما خلا الخسائر والتضحيات والدماء التي تجري من الجميع، ولا يقتصر الأمر على هذه المنطقة.
فأينما نلقي بأبصارنا في مختلف قارات العالم، سوف نجد الصراعات نفسها، والتأزم نفسه بين دول إقليمية تعيش مع بعضها في رقعة جغرافية واحدة منذ مئات السنين، مثلا ما يجري بين الكوريتين من صراع لا يكاد تخبو نيرانه حتى تشتعل من جديد منذرة بنتائج كارثية في حالة وقوعها.
أوربا تحت مرمى الإرهاب
وفي أوربا التي كانت محط حسد الكثير من دول وشعوب العالم، بسبب البحبوحة التي تعيشها شعوبها، ولكنها اليوم باتت هدفا للعمليات الإرهابية المتتالية، لاسيما فرنسا وبلجيكا، فالمجتمع الأوربي في الحقيقة لم يعد نموذجيا وآمنا كما كان في السابق، والسبب معروف للمراقب عن كثب، حيث فضلت الحكومة الفرنسية الحالية الطمع وسال لعابها لإبرام صفقات مليارية مع بعض دول الخليج، وتداخلت مع جماعات العنف والإرهاب فصارت هدافا لهم.
وكما ذكرنا فما يحدث لهذه الدولة سوف يترك آثاره على دول الجوار، لهذا السبب بات اوربا كلها في موقع الخطر، وصارت معرضة لموجة من الإرهاب والتطرف بجميع دولها، ما يعني أن ما حدث في فرنسا باريس ونيس، وفي بلجيكا بروكسل، لا ينحصر في هذه الدول او هذه المدن فحسب، إنما سيمتد الى دول ومناطق أخرى مجاورة او متداخلة مع بعضها.
أما في حال سادت لغة التفاهم والتناغم والانسجام في أوربا او الشرق الأدنى او شرق آسيا، او أية منطقة إقليمية من مناطق العالم، فإن مزايا هذا التعاون والتقارب سوف تنعكس على الأجواء المتوازنة التي تعيشها دول المنطقة برمتها، لذا من الأمور المهمة التي ينبغي أن تتنبه لها الدول والحكومات المرتبطة مع بعضها في منطقة إقليمية محددة، هي صنع الاستقرار الجمعي في المنطقة ككل، وعدم تعريض أية دولة لخطر الزعزعة الأمنية أو أية مشكلة أخرى في المجال السياسي او الاقتصادي او سواه.
لأن المشكلة ببساطة في هذه الدولة، تعني انعكاسا حتما لها على الدول التي تتشارك معها في المكان الجغرافي، ولكن ثمة منظومة سلوك وثقافة تتشكل عبر التاريخ الطويل الجامع لدول المنطقة الواحدة، وهذا بدوره يأخذ جانبين، أما أن تعيش المنطقة الإقليمية مستقرة متقاربة متوازنة متعاونة مع بعضها البعض.
أو خلاف ذلك، عندما تعيش في حالة عداء وحقد وفقدان للثقة، هذا يعني أن مجموعة الدول التي تعيش في منطقة واحدة لها خيارات لا ثالث لهما، أما خيار المشاكل وهذا يعني تأزّم متواصل بين الجميع، يتسبب بأذى وخسائر للجميع، وأما اختيار التقارب والانسجام والتعاون، وهذا الخيار هو الأفضل بطبيعة الحال، لأنه سوف يمنح جميع دول المنطقة مزايا التعاون الإقليمي المشترك، وهي مزايا تظهر نتائجها في استقرار دول المنطقة وتقدمها وتطورها وغناها.
اضف تعليق