شهر رمضان، شهر المحبة والسلام والاتّزان، شهر تسوده أجواء الرحمة والتعاون بين بني الانسان، في هذا الشهر يرتفع منسوب ثقافة التعايش بين الناس - الافراد والجماعات- الى أقصاه، السبب أن النفس البشرية تكون اقرب الى الله، اقرب الى الحق، اقرب الى التسامح، اقرب الى العيش بسلام، أقرب الى حفظ الحقوق المتبادل بين الناس، لذلك في هذا الشهر تزدهر ثقافة التعايش بين الجميع الى اقصى درجة، وينتشر التراحم والتقارب بين الجميع.
في هذه الحالة يمكن أن يكون شهر مناسبة للبدء بحملات كبيرة ومتواصلة لنشر ثقافة التعايش، وكل يعمل في محيطه الاجتماعي، فالجهد الفردي مهما كان قليلا، لكنه بالمجموع سوف يكون جهدا كبيرا ومؤثرا، حيث يتحول الى جهد مجتمعي جماعي كبير، فإذا بدا الجهد الفردي صغيرا كونه فرديا، فإن حاصل جمع الجهود الفردية تقود المجتمع الى نتائج غير متوقعة، لذلك مطلوب منا جميعا أن نسعى بجدية في مجال نشر ثقافة التعايش في هذا الشهر الكريم.
إن التعايش السلمي كمفهوم يمكن أن يخضع الى تفسيرات عديدة مختلفة عن بعضها، ففي العلاقات الدولية دعا خروتشوف عقب وفاة ستالين الى إشاعة التعايش كمفهوم عالمي يتفق عليه القادة السياسيون ويعتمدونه في العلاقات الدولية، ويعني هذا المفهوم الجديد في حينه على السياسة الدولية، انتهاج سياسة تقوم على مبدأ قبول فكرة تعدد المذاهب الإيديولوجية والتفاهم بين المعسكرين في القضايا الدولية. والمقصود بالمعسكرين هنا المعسكر الغربي والمعسكر الشرقي. كما تدعو الأديان كافة إلى التعايش السلمي فيما بينها، وتشجيع لغة الحوار والتفاهم والتعاون بين الأمم المختلفة.
لهذا تعد ثقافة التعايش من الأسس المهمة لتعزيز السلم الأمني والاجتماعي، وقد وعت المجتمعات المتطورة أهمية ثقافة التعايش فجعلتها في مقدمة أولوياتها، وحرصت على نشرها وتحويلها من اطارها النظري الى الاطار العملي الفعلي الذي يتم تطبقيه فعليا في العلاقات الاجتماعية، وقد لمس الجميع النتائج الباهرة التي تحققت لهذه الامم والشعوب بعد اعتمادها لنشر ثقافة التعايش بين الجميع، تعزيزا للسلم الأهلي، لأن ثقافة التعايش تعد بمثابة حجر الزاوية لنشر الوئام والسلام والانسجام بين مكونات المجتمع الواحد بعيدا عن التعصب والتطرف.
الحاجة الى درء خطر التطرف
إن ثقافة التعايش، وثقافة التطرف على نقيض دائما، فكلاهما لا يلتقيان بل دائما يحاول احدهما القضاء على الآخر، فينطبق عليهما المثل العراقي الشائع، (مثل الحيّة والبطنج)، بينهما عداوة ازلية، حيث تفر وتهرب الأفعى بمجرد أن تشم رائحة نبات (البطنج)، هكذا هو التطرف، لا يمكن أن يجد له مكانا في المجتمع، اذا كانت ثقافة التعايش هي السائدة، من هنا شجع المصلحون ودعاة السلام والرحمة على أهمية نشر ثقافة التسامح، واستغلال فرصة شهر رمضان واجوائه الايمانية العميقة لتعميق هذه الثقافة في المجتمع.
ولا شك أن ثورة المعلومات الحديثة والتي تمثلت في استخدام ملايين الناس لشبكة الإنترنت، جعلت العالم أشبه بالقرية الصغيرة، وسهَّلت التواصل والتعارف بين البشر من شتى الجنسيات والأديان، واختصرت المسافات والسنين بدقائق معدودة، وسهولة الاستزادة بالمعلومة بضغطة زر واحدة. ولعل كل هذا يزيد إيجابا أكثر من سهولة التفاهم والتعايش السلمي بين الاتجاهات المختلفة والمتعارضة، فهذه الوسائل قد يكون استخدامها مسيئا للفرد والمجتمع اذا ما تم توظيفها في نشر الاحقاد والفتن والضغائن، ونشر ثقافة التطرف، في هذه الحالة تكون اضرارها اكثر بكثير من منافعها.
وطالما أننا بحاجة الى درء خطر التطرف، فإننا ينبغي أن نستغل وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الاعلام بأنواعها كافة لتحقيق هذا الهدف المهم، نشر ثقافة التعايش، وهو هدف يمكن ن يكون تحت اليد، ويدخل في منظومة تفكير وسلوك المجتمع، فيما لو احسن المعنيون قضية نشر ثقافة التعايش، واستغلوا الفرص المناسبة لتحقيق ذلك، ومنها، وأفضلها، شهر رمضان الذي يكون مناسبا جدا لنشر هذه الثقافة بين مكونات المجتمع على نطاق واسع.
ولا شك أن تحقيق هذا الدف الضخم لا يمكن أن يتحقق من دون بذل الجهود الجماعية الرسمية والأهلية لتحقيقه، ونعني بالجميع، الجهد الحكومي المنظم، مع حضور الدور الفاعل للمنظمات المدنية المعنية بنشر ثقافة التعايش وتعزيز السلم الأهلي، ونشر القيم الجيدة التي تزيد من لحمة المجتمع، وتجعله اكثر تقاربا وتعونا، واقل تخاصما وفتنة وافتراقا، وهذا أمر معمول به بصورة تطبيقية في المجتمعات المتقدمة، حيث تدخل ثقافة التعايش واحترام الرأي والتعاون وحفظ الحقوق ضمن منظومة الفكر والسلوك للمجتمعات المتطورة كونها وعت أهمية ثقافة التعايش، فتمسكت بها واعتمدها في تطوير حياتها فصارت أكثر استقرارا وإبداعا، بعد أن تفرغ الناس الى الانتاج والتطور بعيدا عن ثقافة التطرف والفتن وما شابه.
الدولة ونشر ثقافة التعايش
لا ينحصر التعايش في أنشطة الأفراد، ولا ينحصر في العمل السياسي والعلاقات الدولية على الرغم من أهمية القضاء على التطرف دوليا، والتشجيع على علاقات دولية متوازنة، فالسياسة الدولية عرَّفت مصطلح التعايش السلمي، على أنه قيام تعاون بين دول العالم، على أساس من التفاهم وتبادل المصالح الاقتصادية والتجارية، حيث ظهر هذا المصطلح بعد الحرب العالمية الثانية وانقسام العالم إلى معسكرين متقاتلين.
ولا شك أن الوضع السياسي له انعكاس مباشر على الوضع المجتمعي، لذلك فإن منهج تحسين العلاقات السياسية ونشر ثقافة التوافقات بين الانظمة السياسية سوف يساعد المجتمعات على درء خطر التطرف، كما حدث مثل هذا التعاون في القضاء على داعش في العراق وسوريا كما يجري الآن، فداعش كما هو واضح يمثل عنوان التطرف، وثقافته مناهضة تماما لثقافة التعايش، لذلك نحن في أتم الحاجة الى نشر ثقافة التعايش بين مكونات شعبنا، كي نبني مجتمعا جديدا قادرا على تجاوز مشكلات الماضي التي قيل عنها انها (كانت مستعصية)، اليوم مع هذه الانتصارات الكبيرة على التطرف ينبغي العمل الجاد على تثبيت اركان ثقافة التعايش، مع التأكيد على استثمار اجواء شهر رمضان افضل الاستثمار لترسيخ هذا الهدف الحيوي.
إن العراقيين هم من اكثر شعوب العالم التي عانت أشد المعاناة من موجات التطرف، وما داعش المجرم سوى صورة مركّزة للتطرف وتأثيره على العراقيين، الذين ذاقوا الأمرين على يد الانظمة المتجبرة، وتدخلات الدول الاقليمية التي اعتمد بعضها سياسة اثارة الفتن بين العراقيين، ولكن لم يعد العراقيون لُعبة بأيدي هؤلاء، فقد وعوا مصلحتهم، ووجدوها في تثبيت سياسة التعايش، وتساعد على تحقيق هذا الهدف الحيوي، سلسلة الانتصارات العظيمة التي تم تحقيقها على ايدي القوات العراقية البطلة بكل تشكيلاتها الباسلة.
وانطلاقا من هذا الواقع، لابد من التشجيع على نشر هذه الثقافة بصورة نظرية وعملية في آن واحد، أي اطلاق حملات ثقافية تدعم التعايش بين العراقيين، وتشرح بعمق ووضوح خطر التطرف، وفي نفس الوقت يتم استثمار شهر رمضان بصورة فعالة لتحقيق هذا الهدف الحيوي، وهو امر قابل للتطبيق، بالتعاون المتبادل بين الجهود الرسمية والمدنية والشعبية في الوقت نفسه.
اضف تعليق