من شروط ومقومات الشعوب الناجحة، والأمم المتقدمة، توفرها على حالة "الوعي" في مختلف جوانب الحياة، مثل الوعي الصحّي والأمني والسياسي وغيرها، وهذا لن يتم ويتحقق في الوسط الاجتماعي إلا بوجود حاجة اساسية مثل الخوف من الاوبئة الخطيرة والفتاكة، أو التهديدات الخارجية والتحديات الداخلية وغيرها... بمعنى أن القضية لا تتعلق بشخص او حاجة خاصة لدى فرد دون آخر في المجتمع.
أما في الدول التي لم تجرب هذا النوع من الوعي، نجد انها تراوح في مكانها، إن لم تتقهقر الى الوراء وتتلقى الضربات والصدمات من كل حدبٍ وصوب. وهذا هو حال المسلمين – على الاغلب- في الوقت الحاضر عندما نلاحظ تعرضهم لاستفزازات من الغرب يستهدف مقدساتهم ورموزهم الكبيرة، وحتى قيمهم ومبادئهم، في وقت تحفل المكتبة الاسلامية بمئات بل آلاف الكتب التي تنظر في الفكر وتصيغ المعرفة والثقافة، بمعنى أن لدينا شريحة لا بأس بها من المثقفين والواعين، وهم على الاغلب من خريجي المؤسسات الاكاديمية او من خريجي الحوزات العلمية ومن علماء الدين والخطباء واساتذة الحوزة.
لكن...! هل منع هذا الكتاب او تلك النظرية او الفكرة من أن يتعرض المسلمون في كل مكان لتحدٍ خطير في أهم وأبرز رمز مقدس لديهم، وهو الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله؟ طبعاً؛ كلا. لكن في الوقت ذاته نلاحظ أن جموع الفرنسيين من طلبة المدارس واساتذة وحرفيين ومهنيين ونساء وغيرهم، ممن اصطفوا في طوابير على اكشاك بيع مجلة "شارلي إيبدو" الساخرة والمسيئة، فقد تمكنوا من الوقوف، ليس فقط بوجه حوالي خمسة ملايين مسلم في فرنسا، إنما أمام اكثر من ألف مليون انسان مسلم.
وبما أن الوعي عدو الغفلة، فانه يكون بمنزلة الحاجة التي يبحث عنها الانسان لتفادي الوقوع في الغفلة، وما يترتب عليها من تداعيات خطيرة على حياته الشخصية والاجتماعية، حيث ان الغفلة، بحد ذاتها تُعد ثغرة خطيرة ونقطة ضعف بارزة في شخصية الانسان. وخير من يمثل هذه الحاجة، سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره- في كتابه "لكيلا تتنازعوا" عندما يصف الوعي مثل "الجوع الذي يجمع الناس حول الخباز وقت الظهيرة لشراء الخبز دون مقدمات...". لكن عندما تكون القضية متعلقة بالجوع الجماعي والحاجة العامة للوعي والمعرفة، فان القضية تتخلف كثيراً، إذ يتطلب الامر صياغة "وعي جمعي"، بأن تكون هنالك مساحة واسعة في المجتمع، تحمل درجة عالية من الوعي بأمور عدّة تفيدهم في حياتهم. وكلما اتسعت هذه المساحة كلما توفر القدر الاكبر من المنعة أمام أي نواع من انواع التجاوز والاعتداء.
هذه المهمة ليست بالسهلة والبسيطة – يقول الامام الراحل- لذا تنفق الدول ميزانيات ضخمة وتخطط لها وتضع البرامج، في مقدمتها التشجيع على البحث والتأليف والمطالعة، وإطلاق مشاريع ومبادرات اجتماعية ذات طابع حيوي وميداني، بهدف توسيع نطاق الوعي في المجتمع، بحيث تجعل الصغار والكبار ومختلف الشرائح، يحملون قدراً من الوعي في أمور عديدة. وبالنسبة لنا، فان المسؤولية كبيرة وتاريخية على مؤسسات دينية وثقافية بأن توسع نطاق الوعي، لاسيما الوعي الديني والتاريخي لأنه يتعرض اليوم لتحد سافر في ساحة المواجهة الفكرية والحضارية مع الغرب. مثال ذلك الاساءات التي يتعرض لها المسلمون خلال السنوات الماضية وما يزالون في هذا البلد الغربي وذاك، بينما الشعوب في الغرب يعدون الرسوم الكاريكاترية – مثلاً- ضرباً من حرية التعبير والرأي والمعتقد.
فالحرية، بشقيها؛ الفردي والاجتماعي تمثل قيمة فكرية وثقافية يعيها الفرنسيون وايضاً الشعوب الغربية بشكل عام، على خلفية فكرية وثقافية خاصة بهم، متمثلة بمبادئ الثورة الفرنسية، حيث يعدونها صاحبة الفضل الاول في تدوين وصياغة مفهوم الحرية والمساواة، لذا نلاحظ الحرص الشديد على طريقة هذا الفهم وعدم التنازل عنه امام المسلمين مهما حصل.
من هنا تبدو مهمة الوعي الجمعي لدى المسلمين ضرورة حضارية أكيدة في الوقت الحاضر، إذ ان الغفلة عن تعاليم الدين وثقافة القرآن الكريم وفكر اهل البيت، عليهم السلام، هي التي تعرضنا بين فترة واخرى لتجاوزات وانتهاكات ضد رموزنا المقدسة، فاين كل هذا الارث الكبير والضخم من المسلمين المقيمين في البلاد الغربية. هنالك احصائيات عديدة عن عدد المسلمين في العالم الغربي وفي البلاد الاخرى غير الاسلامية، منها رقم (45) مليون مسلم فقط في اوربا، ناهيك عن الارقام الاخرى في اميركا الشمالية وغيرها. يكفي أن نلاحظ المنعة التي يُحظى به اليهود في العالم، والهاجس الذي خلقوه في نفوس كل سكان العالم من مغبة التجرؤ على ما يسمونه "السامية" او التشكيك بحقانيتهم في احتلال فلسطين وكونها "أرض الاجداد"، ثم لنقارن عدد نفوسهم مع عدد نفوس المسلمين في العالم، إن كانت ثمة مقارنة.
سماحة الامام الشيرازي في كتابه "لكيلا تتنازعوا"، بل وفي كتب اخرى يؤكد على عامل التثقيف والتوعية الحضارية، وان يعرف المسلمون قيمتهم الحقيقية. ويذكر عدة خطوات معظمها تتعلق بالتأليف والطباعة والنشر على نطاق واسع والتشجيع على المطالعة، ومن هذه الخطوات؛ الكتابة عن أوضاع المسلمين في مختلف انحاء العالم، والبحث في ظروفهم الاجتماعية والسياسية والثقافية وعدد نفوسهم وامكاناتهم الاقتصادية والسياسية والثقافية ومكانتهم في المجتمعات التي يعيشونها، والاهم من ذلك، مناقشة الطريقة الفضلى لإقامة الجمعيات والمؤسسات التي تهتم بشؤون المسلمين. وأهم نتيجة وثمرة يمكن استخلاصها من هذه الدعوة، تعريف وتثقيف الشعوب العربية بحقيقة القيم والمفاهيم والمبادئ الموجودة في الاسلام، ومدى تطابقها مع الفطرة الانسانية ودورها في تحقيق السعادة للجميع.
واللافت في سماحة الامام الشيرازي انه يطرح تساؤلاً ويجيب عليه في الوقت نفسه؛ فربّ سائل عن امكانية القيام بدراسات وكتابة مؤلفات في هذا المجال الرحب والواسع، ويجيب سماحته: بان المقصود بإنجاز هكذا اعمال ليس افراداً معينين مثل بعض المؤلفين المعروفين او المؤسسات الثقافية المعروفة، لأن القضية لها ابعاد حضارية تعني الأمة بأسرها، مما يعني أن الطموح يجب ان يكون واسعاً وكبيراً بحجم التحدي القائم حالياً.
اضف تعليق