منذ نعومة أظفاره، يترك فراشه مبكرا، لم يضع طعاما في فمه بل يأخذه معه في كيس صغير، هكذا علمته امه، وعندما يصل الى محل عمله، يجلس مع (استاذه) في العمل ومع العمال الآخرين الذين يكبرونه في السن، يتناولون طعام الصباح معا ثم تبدأ رحلة العمل الطويلة في اصلاح محركات السيارات الكبيرة، عندما بدأ العمل هنا، لم يكن يعرف شيئا عن محرك السيارة او العطل الذي قد يتعرض له، فجعله هذا فاقدا لثقته بنفسه، اضافة الى ذلك كلمات أبيه ووصفه له بالمتردد والضعيف والفاشل جعل من الطفل ذي السنوات العشر ضعيفا خائفا مترددا فعلا، وكانت عملية تعلمه لهذه الصنعة او المهنة شاقة وقاسية.
استاذه الميكانيكي (الفيتر مصلّح محركات السيارات)، تعامل معه عكس أبيه، كان يشجعه دائما، ويزرع الثقة في نفسه ويقول له انت انسان ذكي موهوب وتتعلم هذه الصنعة بسرعة، ويوما بعد آخر بدأ يتطور هذا المراهق ليصبح عاملا فعالا في محل التصليح، لدرجة انه بدأ يتقن بعض الأعمال الصعبة، لكن المشكلة أنه ترك المدرسة، فتم حرمانه من التعليم، مقابل إتقانه بمهارة لعمله هذا، فصار عاملا ماهرا واثقا من نفسه وقدراته ومهاراته.
الأب غير نظرته عن ابنه شيئا فشيئا، خاصة بعد أن بدأ الابن يسلم أباه مبلغا جيدا من المال في نهاية كل اسبوع، حيث كان يتسلم أجره في كل خميس، فيأتي الى أبيه ويسلمه ثلاثة ارباع المبلغ، ويبقى لديه ربع المبلغ فقط يتقاسمه مع امه واخوانه الصغار، مع الزمن استطاع ان يكتسب خبرات عملية كثيرة ومهارات كبيرة وبعد سنوات قليلة تمكن من فتح محل خاص به، وصار له عدد لا بأس به من الزبائن الذين يثقون بمهارته وعمله، وصار ما يكسبه في اليوم الواحد يعادل اجرته الاسبوعية التي كان يحصل عليها عندما كان عاملا لدى استاذه.
هذا المثال يؤكد على أن الانسان قادر على التطور ويمكنه تعزيز الثقاة بنفسه، وأن اكتسابه المهارات الجديدة امرا ليس مستحيلا، عندئذ سيكون أكثر تفاؤلا واكثر ثقة بالنفس، فضلا عن الآثار الصحية الجيدة التي ستظهر عليه، لذا تكمن اهمية دورات التنمية المهارية ومساعدة الانسان على تعزيز قدراته، في صقل شخصية الانسان وجعله واثقا من نفسه، واكثر قدرة على الانخراط في محيطه الاجتماعي، ويستطيع الانتاج، وإظهار مهاراته ومواهبه التي ستميزه عن غيره، فحالة التردد والخوف قد تكون موجودة في بداية التعلم لكنها مع مرور الوقت سوف تختفي، ويتعلم الانسان مهارات مهمة خاصة اذا كان يمتلك الذكاء والرغبة في العمل.
الثقة والشعور المتصاعد بالنجاح
اكتساب المهارات ينبغي أن يكون هدفا للانسان، فالمهارة تعني إتقان العمل ولكن هناك نقطة مهمة، يجب أن يتميز العامل الماهر بعمل محدد ويتقنه دون سواه، أي ان غيره لا يستطيع أن يجيد هذا العمل بنفس الجودة والإتقان، وهذا يضاعف بطبيعة الحال من تحقيق الذات واحترام الانسان لنفسه وشعوره بالكرامة والثقة.
شخصية العامل الذي يكتسب المهارات بنجاح تكون شخصية مرنة منسجمة مع الآخرين، في هذا المجال أكدت احدى الدراسات المتخصصة، أن الحرص على تنمية المهارات والتدريب لتنمية القدرات الشخصية تساعد كثيرا في تعزيز الشعور بالثقة بالنفس وتنمي الشعور بالتفاؤل والامل وتقضي على الشعور بالعزلة وتعزز حب التطلع الى الافضل واكتساب المعرفة. وذكرت الدراسة أنها تمكنت للمرة الاولى في العالم من متابعة الاثر النفسي والمعنوي لمن يحرص على تنمية قدراتهم الشخصية والمهارات عن طريق التدريبات المتخصصة والدورات التعليمية ذات الصلة فرصدت تقدما هائلا في توجهاتهم المهنية والصحية.
هذا يعني أن النجاح العملي ومضاعفة المهارات ينعكس بصورة جيدة على الوضع الصحي للانسان، فالعامل الماهر، والانسان القادر على اتقان عمله، يتمتع بصحة افضل بكثير ممن لا يتقن أي مهنة في حياته، ولا يسعى لاكتساب المهارات، فمثل هذا الشخص غالبا ما ينحدر الى العزلة والكآبة وقد يصاب بحالات خوف من المجهول، لذلك ينبغي على الانسان وعلى المسؤولين عنه في التربية أن يسعى الى كسب المهارات بقوة وجدية.
وقد تتحكم هذه القضية (المهارات) بمستقبل الفرد، هكذا تبدو أهمية تطوير المهارات غاية في الاهمية، لذا على الجهات المعنية الحكومية والاهلية أن تهتم بالغ الاهتمام في هذا المجال الذي يتعلق ببناء شخصية الانسان وبلورة قدراته وصقل مواهبه الامر الذي ينعكس على مجمل نشاطاته الفكرية والعملية، واذا كنا نتفق ان الفرد عضو من مجتمع واسع وكبير وان مجموع الافراد يشكلون المجتمع، لذا فإن المجتمع كله سيكون منتجا وقادرا على العطاء الافضل فيما لو تنبّهت الجهات المعنية الى الفوائد الكبيرة التي تقدمها تنمية القدرات لأفراد المجتمع.
مسؤولية الدولة ومؤسساتها
بطبيعة الحال يستوجب الأمر مساعدة الدولة في هذا المجال، اذ على المنظمات القادرة على التدريب واستقطاب الشباب أن تتحرك بقوة في هذا المجال، وتسعى لاقامة دورات مهمة ومتنوعة، تقدم من خلالها محاضرات نظرية وعملية، لعديد الطلاب والشباب الذين يدخلونها بشغف من أجل اكتساب المهارات، وهناك دوائر ومؤسسات حكومية وأهلية بامكانها ان تقوم بهذه المهمة، فبدلا من أن يبقى ألاف الشباب في الشوارع والمقاهي تحت رحمة الفراغ والأفعال المنحرفة، يمكن أن تصنع الدولة والجهات الاخرى المعنية من هؤلاء الأفراد وخاصة الشباب والخريجين، تصنع منهم اصحاب مهن ماهرين متميزين معززين بالشعور العالي بالثقة بالنفس.
وهكذا فإنهم في جميع الاحوال سوف يصبحون رجالا ناجحين، يعينون أنفسهم، وعائلاتهم، ومجتمعهم وبلدهم، كل هذا يحدث اذا كان هنالك تخطيط سليم لرفد الشباب بالمهارات الفنية المتنوعة، ولا يضر أن تبدأ هذه الدورات للأعمار كافة، لاسيما الشباب، وتعليمهم مهن مختلفة في مجالات التصنيع والزراعة والتجارة ومجالات العمل الاخرى.
حيث نلاحظ اهتمام الدول المتقدمة في هذا الجانب بصورة فعلية، حيث توضح الدراسات الميدانية المعنية بتطوير القدرات والمهارات، مدى اهمية دورات التنمية لرفع كفاءة الانسان، ودفعه كي يكون عنصرا فاعلا في المجتمع وفي الحياة برمتها، من هنا ينبغي على حكومات الشعوب التي تعاني من ضعف البناء المجتمعي ومن انتشار اللامبالاة والخمول والتردد بين افراد المجتمع، ان تعوّل كثيرا على مثل هذه الدورات، وان تستفيد من تجارب الدول التي سبقتها في هذا الميدان، كأن تأتي بخبراء مختصين بتطوير القدرات البشرية وترسل أفرادها الى الخارج لدخول دورات التنمية، وتخصص لها الاموال اللازمة كونها الطريقة الناجحة والمؤكدة لبناء الانسان الفاعل، ومن ثم بناء المجتمع الناجح من خلال اكتشاف قدرات افراده ورفدهم بالمهارات الجديدة في مجالات العمل كافة بما ينعكس على اقتصاد الدولة بصورة فعالة.
أما كيفية تحقيق النجاح في مثل هذه الأهداف، فإن النتائج الجيدة تتوقف على مدى دقة التخطيط والتنفيذ، والاستعداد الرسمي والأهلي لاحتضان واستقطاب الشباب والافراد لزجهم في دورات عملية نظرية تساعدهم على تنمية مهاراتهم واتقانهم لمهن مختلفة يتمكنون من خلالها تطوير مواردهم المالية، وهذا يدفعهم دائما الى تحسين انتاجهم، ويجعلهم من الافراد الناجحين والمتميزين في العمل، لدرجة أنهم سوف يطبقون في حياتهم المقولة الشهيرة، من لا يزرع لا يحصد، ومن لا يعمل لا يحصل على الغذاء.
اضف تعليق