جاء في مصادرنا؛ أن أول عبارة نزلت من السماء ضمن رسالة نبي الله موسى، عليه السلام، هي؛ "في البدء كانت الكلمة"، بينما يدّعي المسيحيون أنها واردة في الانجيل؛ "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله...". (انجيل يوحنا)، وجاءت "الكلمة" غير مرة في القرآن الكريم وهي تحمل دلالات عديدة فهي؛ {كَلِمَةُ رَبِّكَ}، وهي {كَلِمَةً طَيِّبَةً}، كما إنها {كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا}، وموارد اخرى تعبر عن السعة غير المتناهية لهذه المفردة وتضعها في مكانة خاصة ومتميزة في العقيدة والفكر والثقافة.
وفي تطور فكري وثقافي اصبحت الكلمة، بين دفتي كتاب او في اطار مقال او ضمن خطاب جماهيري ضمن سياقات ايديولوجية خاصة، فشهدت مرحلة جديدة تتشكل من مثلث صانع الكلمة (الكاتب او المثقف)، ثم الجهة المستفيدة؛ سواء في شخص الحاكم او المسؤول عن ملف الثقافة في الدولة، او في الشخصية القيادية لهذه الفئة او ذاك التيار، وربما في التيار الفكري برمته، ويأتي في الضلع الثالث؛ المتلقي قراءة وسماعاً ورؤية.
وربما في هذا المآل تحديداً تبلورت فكرة "التسويق" لدى البعض، وليس الكلمة هذه المرة؛ إنما "الثقافة" برمتها، علماً أن هذه الاخيرة ليست سوى نتاج الكلمة الواحدة والكلمات من موروث تاريخي وجذور عقائدية، مع ذلك بات مسموعاً الدعوة الى تسويق الثقافة والترويج للفكرة، فبات من السهل على من يحمل قدراً من الثقافة ورصيداً من المعرفة ان يخوض في عالم الافكار والتصورات ويستخرج منها أحكام ويصيغ معايير خاصة وجديدة على ضوئها يفسر ويجيب عن الظواهر والحالات فيما يتخصّ الانسان والحياة والوجود، أما عن المصداقية وما اذا كانت هذه الفكرة او تلك على صواب ولن تؤدي بالانسان الى المهالك والمهاوي، أم لا، فهذا أمر متروك للزمن والتجربة!.
وإذن؛ فنحن أمام تحول عجيب في تاريخ الكلمة، فمن مكانتها المقدسة والمحورية في صياغة السنن والقوانين الثابتة في الحياة، ودورها الحضاري البناء لخدمة الانسان، وما يمكن ان تضيئ له الطريق نحو الكمال والرقي، الى كونها مجرد تصورات واستنتاجات ذهنية تبدع افكار جميلة تسر الناظرين تصلح للتسويق والنشر بما يدر على صاحبها مردود مادي ومعنوي.
فكيف حصل هذا؟، لو لاحظنا مسيرة المفكرين والفلاسفة المتقدمين والمتأخرين، لوجدنا أنهم ابدعوا وقدموا نظريات في مجالات عدّة، وفكروا في كل شيء إلا في تسويق ما فكروا ونظروا فيه، علماً أن في تلك الفترة، كان هنالك من يقرأ ويتابع وإن كان بشكل محدود، وهذا ينطبق على المفكرين والعلماء في الغرب المسيحي وايضاً في الشرق الاسلامي، والسبب في الالتزام برسالة الكلمة واهدافها وغاياتها، ولذا نجد بعد قرون عدّة، يأتي من يبحث ويدرس تلك النظريات ويكتب عنها، ثم تقام سوح النقاش، واحياناً سوح المواجهة بين هذه النظرية وتلك، لما لها من تأثير على حياة الانسان، ولا أدل ّ على النظريات في الاجتماع والسياسة والاقتصاد والتاريخ.
أما في الوقت الحاضر، فان المشكلة بدأت مع عصر السرعة التي ألقت بظلالها على المنتج الثقافي والفكري، باتت الكلمة المنطوية قهراً ضمن الثقافة والفكر، حالها من حال أي سلعة أخرى تسعى للتنافس على المتلقي وأن تجد لها موطئ قدم في الساحة الاجتماعية ثم السياسية، وهذا يعود الى سببين، ربما من جملة اسباب:
السبب الاول: ظهور تيارات فكرية وثقافية في القرن العشرين، وفي بلادنا تحديداً، همّها الوجود والهيمنة لتحقيق طموحات سياسية واضحة، ومن اجل ان تكون الفكرة قابلة للتسويق ونافذة في العقول والقلوب، أضفي عليها مسحة انسانية، مثل؛ "الدفاع عن الطبقة العاملة" او "التقدمية" او "الحرية" وغيرها من المفردات ذات الوقع السريع في الوجدان والمشاعر الانسانية.
والسبب الثاني: دخول هذا الجهد الذهني ساحة العمل والكسب المادي، لمن يقف خلف اصدار الكتاب او المطبوعات المختلفة وحتى النتاجات الادبية التي تجد طريقها على المسرح او على الشاشة الكبيرة، وفي تطور لاحق على الشاشة الفضية بقيادة القنوات الفضائية، ومن ثم مواقع التواصل الاجتماعي. فمن وراء كل هذه الوسائل تقف جحافل من الكتاب والمنظرين، جلّهم يبتغون مردوداً مالياً لقاء ما يقدمونه من جهد ذهني يكلفهم وقتاً وارهاقاً للاعصاب والخلايا والانسجة في جلسات طوال يومياً. بينما لنتصور حال المفكرين والفلاسفة في الغرب، او علمائنا ومفكرينا، ورغم ما قدموه من نتاجات عظيمة تعد اليوم مصدر إلهام للفكر المعاصر، وبوصلة لمسارات ثقافية، إلا أنهم لم يفكروا بالمردود المادي أو حتى ان يكرمهم أحد، بل العكس نلاحظ حملات التشكيك والقدح والتهميش وحتى التعامل العنيف الى حد التصفية الجسدية من قبل جهات سلطوية وربما فئوية منافسة.
لنتصور تلك الدوافع والمشاعر في تلك الفترات السالفة لو كانت لدينا اليوم، ولو بنسبة معينة، ما كان حالة الثقافة في بلادنا؟ هل كان بامكان الانظمة السياسية ان تتعكز على شعارات منبعثة من افكار وهمية وسطحية، من أن تسوق الشعوب الى حروب مدمرة وصراعات خاسرة وسياسات أثبتت الايام والسنين فشلها، وانها جعلت من الشعوب مجرد حقل تجارب علّها تحظى – مثلاً- بكيان قومي، او بحياة سعيدة وغير ذلك من الآمال والطموحات المجنحة التي لم تطأ أرض الواقع ابداً.
الحل؛ في عودة الثقافة والفكر الى أصل الكلمة التي تقوم على اساسها، لا أن تتنكر لها وتتجاوزها بحجج مختلفة، منها "ما يطلبه الجمهور" وغيرها من الذرائع التي لن تكون مبرراً لنزول هذه الكلمة الى هذا المستوى، أما من يتسائل عن المردود المالي أو ما يسمى بـ "حق النشر" فانه لا يأتي من جمهور المتلقي الذي سيقرأ الكتاب او المطبوعات الاخرى، او حتى يشاهد الفيلم والمسرحية، إنما من الجهة والمؤسسة التي ترعى هذا المشروع الثقافي والفكري وتحمل الكلمة رسالة حضارية ليس فقط الى المتلقي في الزمن الحاضر، إنما للاجيال القادمة ايضاً، عندها يكون اسم الكاتب ذو منزلة في القلوب والعقول، فتبحث عنه الشبيبة الصاعدة جيلاً بعد جيل في ثنايا المكتبات وتبذل من اجل الحصول على نسخة، ولو ممزقة، اموالاً لا بأس بها.
اضف تعليق