تبقى الدولة قائمة بأركانها المعروفة بغض النظر عن نوع النظام السياسي الذي يقودها، فالنظم السياسية على اختلاف أنواعها تسعى الى الحفاظ على كيان الدولة، لسبب واضح وبسيط، أن بقاء النظام السياسي مرتبط ببقاء الدولة، فإن تهدمت أركان الدولة وتعطّلت مؤسساتها، تعطل النظام نفسه، لذلك تسعى النظم السياسية بمختلف أشكالها وأنواعها أن تفعّل عمل مؤسسات الدولة وتزيد من نشاطاتها وتحميها من الزوال.
حتى الأنظمة الدكتاتورية التي عادة ما يخرق حكامها القانون، تدعو للحفاظ على القانون، وتشرّع القرارات والمراسيم التي تحفظ المؤسسات، وتبقي عليها، حتى لو كان بعضها شكليا، أو مرتبطا بطبيعة النظام السياسي، ولا تمتلك الاستقلالية، فالمهم هو وجود المؤسسات وفاعليتها كي تبقى الدولة على قيد الحياة، لأن الدولة التي تتعطل مؤسساتها عن العمل، تكون في طريقها الى الاضمحلال ومن ثم الموت الحتمي.
هل هناك دول عاطلة في عالم اليوم؟؟، الجواب نعم توجد دول عاطلة عن العمل، وهي الدول المتخلفة التي لا تخطوا خطوة الى أمام، بل تتراجع خطوات الى الخلف، أما سبب هذا التراجع فيعود الى مؤسسات الدولة العاطلة، فكما ذكرنا سابقا، لا توجد دولة في العالم بلا مؤسسات تدير شؤونها، وتحافظ على نظامها، وتحمي وجودها، ومن مهام هذه المؤسسات، حماية حقوق الشعب، والحريات، وحرية الرأي، وتأمين العدالة الاجتماعية، وحفظ النظام.
ما ذكرناه هو روح الدولة، وأي خلل فيه سوف يؤثر على وجود الدولة، فاذا غاب القضاء العادل، كثر الظلم، وتضاعف الفساد، واذا تهددت الحقوق ساد منطق القوة والغاب، واذا تراجعت العدالة الاجتماعية عمّت قيم التخلف والفساد اركان الدولة كلها، وكل هذه المهام تقوم بها مؤسسات الدولة التي ينبغي أن تكون مستقلة وفاعلة وليست عاطلة كما هو الحال الآن في العراق.
هل العراق دولة مؤسسات عاطلة في الوقت الحالي؟؟، وهل كانت في يوم ما دولة عاطلة، متى وأين وكيف؟، الجواب، بلا تردد أو مجاملة او محاباة، (إن العراق الآن دولة مؤسسات عاطلة عن العمل)، وأن المسؤولين والقادة السياسيين كأنهم لا يفقهون درجة الخطورة التي تتهدد وجود هذه الدولة (العراق)، وكأنهم يعيشون في بلد آخر (خارج الحدود) ويتفرجون على ما يجري في الداخل، نعم ان العراق الآن في ظل قياداته الراهنة دولة عاطلة عن العمل، والسبب هو تعطيل عمل مؤسسات الدولة، السؤال المهم، هل هناك ما يثبت حقا أن مؤسسات دولة العراق عاطلة فعلا عن العمل، أم أنها اتهامات لا صحة لها من رأي معارض؟؟.
أدلة قاطعة على عطل الدولة
منذ ست سنوات، أي منذ حزيران 2011 بدأت مظاهرات شعبية في العراق، في بغداد وعموم المحافظات، طالب فيها المتظاهرون بحقوق واضحة، أهم تلك الحقوق، تقديم الحكومة للخدمات التي تحفظ كرامة المواطن، وتنشر العدالة الاجتماعية، وتعالج البطالة، وتقضي على الفساد، وتمنع التوظيف غير العادل، وتحد من الصفقات المشبوهة، وتحمي المال العام من التخريب والتهريب وغسيل الاموال والهدر المنظم، كل هذه المطالب كانت تجري بوتيرة متصاعدة يوما بعد آخر، ولم تتوقف حتى هذه اللحظة.
في المقابل بقيت الدولة بحكوماتها المتعاقبة، (عاطلة عن العمل) والسبب هو تعطيل مؤسساتها، وجعلها غير مستقلة، حيث تدخلت الكتل والاحزاب السياسية في عملها، وخضعت للتوترات بين الكتل، وساد نظام السكوت المتبادل على الفساد والمفسدين وتمت السيطرة على أهم مؤسسات الدولة، وهي بمثابة الشريان الذي يبقى الدولة على قيد الحياة، ونعني به (القضاء)، فهذه السلطة والمؤسسة التي ينبغي أن تبقى مستقلة تمام الاستقلال حتى تحمي الدولة والشعب وتحمي المؤسسات الاخرى، لم تكن مستقلة، بل تسلل إليها داء الأحزاب التي أفسدت عملها.
وهنا بدأ مرض (التعطيل) يتسلل الى المؤسسات الاخرى، ومنها مجلس النواب، حيث تحكمت به كتل سياسية معروفة من خلال (افراد، هم قادة الكتل)، وهم لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة، وصارت مصالح الكتلة والحزب تتفوق يوما بعد آخر على مصلحة الدولة والشعب، وغاب التشريع السليم، وزُجَّ بهذه المؤسسة التشريعية المهمة في المماحكات والتجاذبات التي طالما تحدث بين الاحزاب والكتل وشخصياتها، فتدور الصراعات والتسقيط بين هؤلاء من أجل المنافع الحزبية والفردية الضيقة، وتضيع الرؤية الاستراتيجية لبناء الدول في ظل هذه التصادمات التي لا طائل من ورائها.
تبقى لدينا مؤسسة وسلطة مهمة، ونعني بها المؤسسة التنفيذية التي تدير شؤون الدولة والشعب، هذه المؤسسة هي الاخرى تشكلت تحت وطأة الخلافات المستمرة، وخضعت الى مفاهيم ومصطلحات ما انزل الله بها من سلطان، فتدخلت المحاصصة، والكوتا، وحصة الأقليات، والتوافق، وسوى ذلك مما يعد تدخلا سافرا في عمل (رئاسة الوزراء)، فيبقى الرئيس التنفيذي مكبلا بالأحزاب وخاضعا لدرجة الاتفاق والاختلاف فيما بينها.
وهكذا أصبحت دولة العراق، دولة بلا مؤسسات، أو دولة المؤسسات العاطلة، أو بالأحرى (المعطّلة)، لأنها في الحقيقة لم تولد وهي عاطلة، وانما هناك من قام بتعطيل عملها، قاصدا من وراء ذلك تحقيق اهداف تتركز في مجملها على الامتيازات والسلطة والمناصب والأموال، وهي اهداف آنية ضيقة وذات منحى فردي، أما النظرة الاستراتيجية لبناء الدولة فقد غابت عن السياسيين والاحزاب حتى هذه اللحظة.
متى نبني المؤسسات العاملة وكيف؟
هل تمر الدولة العراقية في مرحلة خطيرة؟، وهل أسباب ذلك معروفة، هل هناك آفاق متاحة لطرح الحلول المناسبة، وهل لا تزال فرصة الانقاذ متاحة؟؟.
نعم دولة العراق تمر بأخطر محنة سياسية، لم تمر بها سابقا في جميع الحكومات الملكية والعسكرية وحكومات ما بعد نيسان 2003، أي منذ نشوء الدولة العراقية الحديثة عام 1921 والى الان، لم يتهدد كيان الدولة العراقية كما هو مهدد الآن، هل نبالغ في مثل هذا الرأي؟؟، لا نظن ذلك، والسبب أن مؤسسات الدولة معطّلة، وهذا يعني أن الدولة نفسها تعيش الآن في (العناية المركزة، الانعاش)، وعندما يصل الكائن الحي الى مرحلة (العناية المركزة)، فهذا يعني أنه قد يفقد حياته في أي لحظة قادمة.
هل الحلول موجودة؟ الجواب نعم موجودة، وواضحة ومعروفة، ولكن تحتاج الى ارادة التطبيق، وهذه الحلول تتلخص بإعادة الروح الى مؤسسات الدولة المهمة والمعروفة، وأهم نقطة في هذا الجانب، أن تتفق جميع الكتل والاحزاب السياسية على منح هذه المؤسسات (استقلالية تامة وحازمة)، لذلك منذ هذه اللحظة، يجب أن تعمل الطبقة السياسية كلها بارادة واحدة واتجاه واحد ومعروف.
وهو إعادة الحياة الى المؤسسات المستقلة، على أن يبدأ ذلك بالسلطة التشريعية، ومن ثم تنظيف القضاء بما لا يدع مجالا للشك بنزاهته وعمله، ثم حشد جميع الجهود كي تكون هناك حكومة مختلفة عن جميع الحكومات السابقة، حكومة عراقية (فعالة، قوية) ذات ارادة فولاذية، وعقليات علمية عملية كبيرة، يدعم ذلك سلطة رابعة تتمثل بالاعلام النزيه، الذي يرفض الولاءات الفرعية، وينتمي الى العراق، الدولة ذات المؤسسات الفاعلة.
وعندما يتوفر برلمان قوي متماسك، قادر على تشريع القوانين التي تخدم الدولة والشعب، وعندما يستقل القضاء ويحارب الفساد والجريمة ويحفظ اموال العراق ويحفظ النظام وينشر العدالة، وعندما تقوم الحكومة القوية العملية العلمية بوزراء اكفاء، عند ذاك حتما سنكون ازاء دولة العراق القوية النموذجية بمؤسساتها العاملة الفاعلة القوية المستقلة، ولكن كل هذا لا يمكن أن يحدث من دون أن تعي الطبقة السياسية العراقي أمرين، الأول أن البلد يقف الآن على حافة الهاوية بسببهم كما ذكنا ذلك بالتفصيل السابق، والثاني، الفرصة لا تزال متاحة امام الساسة جميعا (كتلا وأحزابا وشخصيات)، لكي تعيد الحياة الى مؤسسات الدولة وتمنحها استقلالية تامة، حتى تعود الروح الى دولة العراق القوية.
اضف تعليق