تهجير المعارضين السياسيين وأهل الرأي والعقيدة عن أوطانهم وأهلهم، لم تبتكره الانظمة الديكتاتورية في القرن العشرين، إنما هو يمتد الى عهود تاريخية بعيدة تصل الى العقود الاولى من تاريخ الاسلام، ولأن هؤلاء المعارضين ينطلقون من قاعدة فكرية وعقدية رصينة، ويحظون بنسبة تأييد جماهيري كبيرة، نلاحظ أن المتسهدفين دائماً في هذه الممارسة الديكتاتورية؛ الشيعة من اتباع أهل البيت، عليهم السلام، بالدرجة الاولى، وربما تكون أول عملية نفي او تهجير قسري حدثت في تاريخ الاسلام، ما حصل للصحابي الجليل، أبو ذر الغفاري، عندما نفاه عثمان؛ مرةً الى الشام لإسكاته بمساعدة معاوية! وعندما فشلت الخطة، نفاه الى صحراء الربذة.
وهكذا في مسيرة التاريخ، كان التهجير او النفي او الترحيل، مواكباً لمختلف اساليب القمع والتنكيل من الانظمة الحاكمة، بل إن الأئمة المعصومين لم يسلموا هم ايضاً من هذه السياسة، فكان ما حصل للامام الكاظم، عليه السلام، بترحيله الى بغداد، والامام الرضا، عليه السلام، بترحيله خراسان، كما حصل للأئمة من بعدهم، والهدف من كل ذلك بالدرجة الاولى؛ إيجاد فاصلة بعيدة عن القيادة والقاعدة، ونقل الرموز المعارضة الى أجواء اجتماعية غير ذات تأثير في مسار الصراع بين المعارضة والسلطة.
واقتفى نفس النهج، الحكام الجدد في بلادنا الاسلامية، الذين وجدوا في تحقيق ذلك "الهدف الديكتاتوري" العتيد، ضمان فترة على كرسي الحكم، لاسيما وأن التطور الثقافي والفكري وانتشار الوعي والمعرفة، قد امتد في اوساط الامة خلال القرن العشرين، مما جعل تهجير عالم دين مثل السيد حسين القمّي من قبل الحاكم المستبد في ايران (رضا شاه) الى العراق، أو قرار ترحيل الامام الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره- من العراق من قبل سلطة البعث البائد، وغيرها كثير، إنما كانت بالنسبة لأولئك الحكام، بمنزلة تطويق تموجات الثورة الجماهيرية في قوقعة صغيرة، ورسم صورة ايجابية للناس والعالم عن الوضع القائم، ولكن؛ هل نجحوا بتلك المحاولات والقرارات في تحقيق ما أرادوه؟.
جاءت النتائج عكسية، فقد تحولت المنافي وبلاد المهجر الى منطلق جديد للتحرك والاجهاز على ذلك الوضع الايجابي الموهوم، لتتهاوى كل الاصنام والكراسي بسرعة البرق، وتكون أثراً بعد عين، فما كان يخشاه أولئك الحكام من الداخل جاءهم من الخارج، وهذا إن كان يصدق على نظام صدام في العراق والشاه في ايران، فانه صدق قبل ذلك في التاريخ الاول، او التجربة الديكتاتورية الاولى، في عهد عثمان عندما زحف المعارضون الناقمون من الامصار الاسلامية على الاستئثار بالمال والسلطة، الى المدينة، "مركز الخلافة"، وحصل ما حصل.
رغم هذه التجارب المريرة لمن سبق من الحكام في التاريخ القريب والبعيد، نلاحظ ارتكاب حكام جزيرة البحرين، الخطأ ذاته، علماً أن من سبقوهم بالفشل في هذه التجربة، كانوا {أشدّ منهم قوة وآثاراً في الأرض}، بينما معروفٌ عن البحرين؛ الجزيرة الصغيرة الوادعة في الخليج، وبعدد سكانها الذي بالكاد يتجاوز المليون نسمة، معظمهم من المقيمين الاجانب، وبمساحة تصل الى حوالي سبعمائة كيلومترمربع فقط، فهي أصغر من جميع الدول الخليجية من حيث المساحة الجغرافية. والأهمية الاستراتيجية التي تحظى بها هذه الجزيرة، ليس في ثرواتها المعدنية البسيطة، ولا مقوقعها "الجيوسياسي" إنما في تواجد تاريخي عريق للشيعة، مع نشاط علمي وثقافي واضح على خارطة المنطقة.
فالى جانب التنكيل والقمع الوحشي الذي مارسته قوى "الأمن" بمساعدة سعودية وخليجية اخرى، لم تجد السلطات الحاكمة في المنامة مناصّاً من تكرار تجربة الآخرين في نفي المعارضين خارج البلاد، ومن ثم سلب الجنسية منهم، لمزيد من التنكيل بهم، ودفعهم نحو أزمات قانونية مع الحكومات التي تستقبلهم، والسبب في تكرار التجارب الخاطئة والقاتلة، أن الفكر الديكتاتوري لا يفهم سوى التصفيق والتهليل في الشوارع والمدن من قبل شريحة من المستفيدين والمتزلفين، ثم ليحصل ما يحصل خارج الحدود، لان الداخل والقاعدة الجماهيرية التي يرتكز عليها الحاكم الديكتاتور هو الذي يصنع الواقع السياسي والاجتماعي، فتكون شرائح المجتمع، بين الاستسلام لهذا "الأمر الواقع" او المشاركة والتأييد او الصمت والانتظار او الوقوف على الحياد.
ولذا نلاحظ أن معظم الحكام في بلادنا، ولعل ابرزهم "صدام حسين" كان يحبذ وبقوة رحيل المعارضين الى خارج العراق، سواءً من علماء الدين او التنظيمات السياسية والنخبة المثقفة، وهو صاحب المقولة المشهور لدى وصوله الى كرسي الرئاسة عام 1979، بأن "لا يوجد عندي معارض سياسي"، وأشار اكثر من مرة في تلك الفترة، إن من لا يعجبه الوضع بامكانه الرحيل، بغض النظر عن وجهة الرحيل.
وكذلك يفعل حكام البحرين، فهم يقترحون على المعارضين البقاء بصمت او الرحيل والتخلّي عن الجنسية البحرينية، او العودة الى السجن ثانية، ظناً منهم أنهم بهذا الاسلوب يتمكنون من إسكات صوت المعارضة وقتل روح الرفض في الشارع البحريني، ولكن؛ الشجاعة والبسالة التي ظهرت مؤخراً وتجسدت في سماحة العلامة الشيخ محمد علي المحفوظ، بعد إطلاق سراحه مؤخراً، ربما تدفع السلطات البحرينية هذه المرة، الى ارتكاب أخطاء الماضين، بتهجير قسري للمعارضين، وهذا ما نستشفه من أول تصريح للشيخ المحفوظ في خطبة الجمعة بعد خروجه من السجن، بأن "سوف نحمل الحق، وسوف نبقى على الحق، وسوف نطالب بالحق...". وهذه أول رسالة الى من يهمه الأمر في المنامة بأنه لن يرحل ويغادر ليريحهم، إنما هو باقٍ يمارس دوره الحضاري حتى تحقيق التغيير الشامل والحقيقي.
وبمعنى؛ أن حكام المنامة هم الآن أمام خياران أحلاهما مُر، الإبقاء على المعارضين، وابرزهم الشيخ المحفوظ، يعانقون الحرية في بلادهم وايضاً يعانقون قاعدتهم الجماهيرية، أو أن يتخذوا القرار الصعب بتهجيرهم الى الخارج، وما يمكن ان يتسبب بافرازات سيئة، سياسياً واعلامياً، على الصعيد الاقليمي والدولي، فضلاً عن الاسقاطات على الوضع الداخلي.
اضف تعليق