أصيب طفل (ابن صديق لي) بمرض غامض، أخذه أبوه الى أشهر الأطباء، لكنه عاد بخفيّ حنين، ولم تتحسن حالة ابنه إلا بعد بعد أن استشار رجل (عرفة) كبير السن، لا علاقة له بالطب الحديث، بل أخبر الأب بالكلمات التالية.. قال: عليك أن تصغي إلي جيدا، إبنك لا يعاني من مرض عضوي، جسده ناصح، أفضل من جسدكَ وجسدي، أهم شيء عليك أن تعرف ابنك من الداخل وتلاحظ ما هي المشكلة التي يعاني منها بالضبط، راقب ابنك، في البيت، كيف يتحرك، يكيف ينام، ماذا يقول، ماذا يأكل، ماذا يشرب، راقبه من الداخل، وعندها سوف تكتشف سبب مرضه بنفسك.
هذه الحكاية ذكرتني بالمرض الذي يعاني منه العراق، وهو في الحقيقة ليس مريضا، لأن جسده معافى ويضج بالثروات والكفاءات وبكل مقومات الحياة السليمة، ولذلك فالعراق نفسه ليس مريضا مرضا عضويا، إنما مرضه في (قياداته) حصرا، ونعني بها القيادات (الداخلية) التي لا تعرف كيف تقود البلد، أو ان بعضها يعرف ولكنه لا يفعل، لأن قيادة البلد بصورة صحيحة، تعالج المرض ويستعيد العراق صحته، مع فقدا القادة السياسيين لامتيازاتهم والوجاهة والمناصب والسلطة وما شابه، وهذه كلها تسهم في بقاء العراق مريضا.
لذا فإن أهم ما يحتاج إليه العراق هو القائد السياسي الذي يتفوق على نفسه، ويردع أهواءها ورغباتها، ويؤدي عمله القيادي بضمير حيّ، هذا هو بالتحديد التشخيص الصحيح والسليم الذي يحتاجه العراق كي يتخلص من مرضه، بل من سلسلة الامراض التي تنخر روحه وجسده، لذلك عندما نقوم بفحص المزايا والاخفاقات لدى الشعوب، سنلاحظ توافر المزايا الجيدة لدى الشعب المتقدم وخاصة لدى الطبقة السياسية التي تحكمه، وفي نفس الوقت سوف نلاحظ الاخفاقات تتلبس الطبقة السياسية في الشعب المتخلف، هذه هي أسرع وأبسط مقارنة يمكن أن تحدث بين شعبين، أحدهما ينعم بمزايا التقدم، والآخر يتخبط في وحل الاخفاق.
وهكذا بات الطريق واضحا للجميع، وخاصة من يهمهم الامر اكثر من سواهم، فإذا كان السياسيون العراقيون يمتلكون الحرص الكافي على شعبهم وبلدهم، فها أن الامور بانت أمامهم، وهذا يعني أنهم سبب ما يعانيه العراق من مشكلات وامراض، وأن صحوتهم وعودة الضمير الى جادة الصواب كفيلة بانقاذ البلد، أما المزايا فهي معروفة لنا جميعا، وغالبا من نتحدث عنها ونشير إليها ونضرب الامثلة عنها، لاسيما أننا نتحدث كثيرا عن الخطوات العملية الصحيحة ولكننا لا نعمل بها، فيما الاخرون يتحدثون قليلا عن الامور التي تخدم شعوبهم، ولكنهم يعملون بها ويقومون بانجازها.
كيف يستعيد العراق عافيته؟
أي أنهم ببساطة، سياسيون لديهم ضمير حي، سياسيون متفوقون على أنفسهم، وليس راضخين لهذه الأنفس، هؤلاء السياسيون الناجحون، هم يقودون أنفسهم وليس العكس، نحن نحتاج الى قادة سياسيين لا تقودهم أنفسهم كما تشتهي هي، نريد سياسيين هم الذين يقودون أنفسهم ويوجهونها لصالح الشعب والبلد، اذا تحققت هذه الخطوة، سوف يستعيد العراق عافيته في غضون أشهر أو سنوات قليلة، كونه بلد فيه المقومات المتكاملة التي تسمح في بناء دولة مدنية متطورة.
قد ينبري أحدهم ويقول، نعم أن قادتنا يتميزون بالعمل الجاد، وأنهم يمتلكون الكفاءة، وقد يصح هذا على بعضهم، ولكن أين التطبيق على الواقع؟؟ كل المؤشرات تؤكد أن ما يقوم بها ساسة العراق هو خدمة أنفسهم واحزابهم وذويهم والمقربين منهم لضمان الولاءات وعدم فقدان السلطة، نحن حتى اللحظة لم نلحظ اشارات على تفوق السياسيين على أنفسهم، وكثيرا ما نسمع من المفكرين والفلاسفة والعلماء، أن الكلام من دون عمل يبقى في حيّز العدم، لا فائدة منه إلا في الاجترار اللفظي الذي لا يغني ولا يشبع، فيما يكون العمل ممثلا أمينا ولسانا سليما للفكر والكتابة والكلام ايضا، وقال العلماء، لا تتكلم، دع عملك يتحدث بدلا عنك، وهكذا تنجح الشعوب عندما يكون العمل مرافقا بل متقدما على الكلام، وهذا لن يتحقق إلا في حالة الحصول على قادة سياسيين يكون بمقدورهم قيادة أنفسهم وليس العكس.
لذلك يقول أصحاب التخصص وأهل الشأن أن من أهم الخطوات التي يجب تحقيقها هو تصعيد طبقة سياسية عبر الانتخاب، تمتلك ثقافة الانجاز، وتؤمن بأهمية التفوق على النفس، تُرى هل لدينا ثقافة انجاز شائعة في المنهج السلوكي اليومي لقادتنا السياسيين، وهل لاحظنا في سياق عملهم القيادي ما يدل على أنهم يرعون مصالح الشعب أكثر من مراعاتهم لأنفسهم ومصالحهم.
نحن في العراق نفتقر لهذه الميزة او هذه الحاجة، نعم انها حاجة سياسية قصوى، يمكنها أن تقضي بشكل كامل على حزمة الامراض الداخلية التي يعاني منها العراق، ان فقدان الحرص على الشعب والبلد، حالة نلمسها باليد ونراها في العين، وهذا ما نلاحظه على العرب عموما والعراقيين على وجه الخصوص، ليس هذا فحسب بل أنهم طاردون للمتفوقين وللكفاءات، فالمتفوق الذكي المبتكر الموهوب، عندهم لا يجد الرعاية التي يحتاجها ويستحقها، بل يبقى ساكنا مستكينا خاضعا لرحمة الاهمال الحكومي والمؤسساتي والشعبي ايضا، وسرعان ما يبحث عن سبل وطرق ووسائل تكفل له إظهار مزاياه وهذا يتمثل بالهروب والهجرة الى خارج البلد، وهذا يدخل ضمن سياسة تفريغ العراق من العقول والكفاءات، حتى تبقى الطبقة الحاكمة بمنأى عن خطر العقول والفكر.
محاربة الكفاءات وتهجيرها
عند ذلك تكون المهاجر هي البديل، فيضطر الموهوبون واصحاب الكفاءات الى مغادرة المجتمع الذي ينتمون اليه، ويغادرون دولتهم الام، ويبحثون عن شعوب ودول اخرى تعرف قيمة التفوق والموهبة، وتنتشر في سلوكها ثقافة الانجاز، هناك سوف يجد المتفوقون العراقيون مجالا واسعا لطرح افكارهم واعمالهم واثبات تفوقهم وتحقيق ذواتهم، فتتحقق استفادة المتفوق لذاته، فيما تستثمر تلك الدول الحاضنة لمواهبنا وكفاءاتنا، قدراتهم المتنوعة لصالح تلك الدول، وليس لصالح الدولة التي انجبت هذه الكفاءات، يحدث هذا في ظل فقدان السياسي المتفوق على نفسه، والمستعيد لضميره، والخادم لشعبه وبلده بضمير حي.
لذلك من اهم السياسات التي اتبعتها الطبقة السياسية الحاكمة طرد الكفاءات بعد اهمالها، بدلا من صحوة الذات وخدمة البلاد وردع النفس، أما لماذا اصبحت طاردة للمتفوقين واصحاب الكفاءات، فهذا امر واضح واسبابه معروفة جدا، لان المتفوق يشكل خطرا على انصاف الموهوبين الذين يحتلون المناصب والوظائف بالتزوير والتملق، خاصة اننا كعراقيين نعيش في ظل حكومات هي نفسها لا تحب التفوق، إلا اذا كان يعمل في اتجاه تثبيت السلطة وحمايتها، أما البحث غن قادة يتفوقون على أنفسهم فهو امر يبدو ضمن قائمة الاحلام المؤجلة! مع انه العلاج الذي يحتاجه العراق والعراقيون الآن.
الخلاصة لم يعد الامر قبلا للصمت، او غض الطرف، حتى الساسة أنفسهم عرفوا الآن بعد موجات الاحتجاج والاعتصام المتلاحقة، ومن ثم مؤشرات العصيان المدني، كل هذه الامور تستدعي أن تصحو الطبقة السياسية من سباتها وغفوتها، ولابد أن تتوافر لهؤلاء القادة السياسيون الارادة القوة القادرة على معالجة أوضاع العراق، والنهوض به، ومعالجة امراضه الداخلية، فإذ صح البلاد من الداخل يصح حتما من الخارج، وهذا ما هو مطلوب الآن، ممن يعمل في الميدان السياسي، وليس هناك فرص كثيرة متاحة ولا وقت طويل امام الطبقة السياسية التي ينبغي أن تبدأ بالتفكير الجاد والفوري والسليم بالتفوق على نفسها.
اضف تعليق