السلم، كما الحرية والعدالة وغيرها من القيم الانسانية المقدسة، يفترض أنها تكون من مسلّمات الحياة ولازمة لشخصية الانسان، بيد أن السائد اليوم هو؛ الحرب والكبت والظلم وأشباهها من قيم الفساد اللاانسانية، وعندما تكون هنالك مطالبة بإزالة هذا الفساد ومحاولة لتغيير الواقع الفاسد، نلاحظ محاولات لتحويل تلكم القيم الحقّة الى هدايا و "مكرمات" تمنح للشعوب، فهذه الحكومة او ذاك الزعيم، إنما يحقق إنجازاً باهراً عندما يعيد السلم والاستقرار الى هذه المدينة او تلك المنطقة، وكذلك الحال في إعطاء بعض الحريات الفردية او العامة، وهكذا...
الشعوب من جانبها، ونظراً الى التطبّع على التوتر والاضطرابات والمشاحنات على كافة الصعد، تجد ان الحديث عن تسويات سياسية لإنهاء الاقتتال ووقف إطلاق النار، بمثابة طوق النجاة من الموت والتشريد والعيش في العراء تحت اشعة الشمس اللاهبة صيفاً وفي صقيع الشتاء. ومثالنا في ذلك؛ العراق... فمن جملة ما ابتلي به خلال العقود الماضية، وما يزال؛ هو استمراء الحرب والقتال والاضطرابات الامنية، حتى أن الامن والاستقرار بات ضالة المواطن العراقي.
واذا ما سمعنا عن محاولات استتباب الامن والاستقرار، نلاحظها تمر عبر القنوات السياسية ومن خلال الصفقات والمشاريع الخاصة بالبرنامج الحكومي، بمعنى انها مثل أي مشروع عمل تقدمه الحكومة خلال اربع سنوات من عمرها، وبانقضاء المدة المحددة، ينتهي كل شيء. فالقضية – على هذا الاساس- مرهونة باتفاقيات ترضية او تقاسم للامتيازات وغير ذلك، وإذن؛ لا ديمومة للأمر، وبالنتيجة لن يكون بوسع الانسان؛ الفرد والمجتمع أن يبني حياته ومستقبله على رمال متحركة.
واذا راجعنا كتاب "الصياغة الجديدة لعالم الحرية والسلام والرفاه" للإمام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- نجده يعالج هذه الثغرة والحالة غير الحضارية في الفصل الخاص عن "السلام"، حيث يدعو الى اقتلاع جذور الحرب وإشاعة ثقافة السلام، فهو – قدس سره- يستذكر ما جاء في كتابه "فقه الاجتماع" بأن "حفظ السلام لا يمكن بمجرد الإعلام والمنظمات الداعية للسلام، لان السلام ليس امراً سطحياً، كما ان الحرب ليست امراً سطحياً، بل اللازم قطع جذور الحرب حتى يسود السلام...".
إذن؛ فالقضية مبدئية وجذرية ولا سنخية لها مع التجاذبات السياسية والتحالفات والمزايدات وغيرها من أدوات السياسية والحكم، نعم؛ يُقر الحكام والمسؤولون بتأثيرها المباشر على مسار الحكم و"العملية السياسية" بيد ان التعاطي معها بالطريقة السطحية والساذجة يثمر عن نتائج سيئة بل وخطيرة على حياة المجتمع والدولة بشكل عام، وهذا ما نلاحظه ونلمسه في الواقع العراقي.
من هنا نستلهم الدرس من تكريس مبدئية السلم والسلام من هذا الكتاب القيّم، حيث يشير سماحة الامام الراحل الى "سلاح الوعي" لمكافحة ظاهرة الحرب والعنف والاقتتال، والوعي في جانبين اساس بالحياة: الجانب الاقتصادي والجانب السياسي، لتكريس هذا المبدأ وليعيش الناس السلم الحقيقي الدائم:
الوعي الاقتصادي
بما أن حقيقة الطبقية الاجتماعية والاقتصادية، باتت واضحة للجميع، وأنها وراء معظم الظواهر الاجتماعية الخطيرة، مثل السرقة والفقر والبطالة والاميّة، فان الخطوة التالية هي الوعي بالتحركات والانشطة المشبوهة لاصحاب النفوذ والرساميل في دوائر الحكم، وسعيها للتحكّم بمقدرات الناس ولقمة عيشهم، من خلال الوصول الى مناصب ادارية مرموقة وذات شأن. لذا تكون المطالبة بالمساواة والعدالة وتكافؤ الفرص، من أول الاستحقاقات في عملية البناء الاقتصادي والاجتماعي.
إحدى الدول النامية والطامحة الى التطور والنمو الاقتصادي، كانت تسعى دائماً للانضمام الى منظمة التجارة العالمية للاستفادة من الامتيازات الدولية، وجاء الرد، وفق تحريّات في داخل ذلك البلد، بأن هنالك مشكلة عميقة لابد من حلّها في العملية الاقتصادية، وهي عدم وجود تكافؤ للفرص في الانتاج، فالمصانع والمنشآت الانتاجية تابعة لكارتلات او مجاميع غامضة بعضها يمد أذرعه في أجهزة الدولة والجيش والمخابرات والبعض الآخر يتظاهر بالمشاركة في أسواق البورصة والإسهام في نظام "الخصخصة". ففي البلاد النامية المتقدمة نلاحظ المصانع والورش الصغيرة في كل مكان، فالجميع يعمل وينتج، وهذا ما يجعل "الدخل العام" وايضاً "دخل الفرد" مرتفعاً نسبياً، وقادراً على التعاطي مع القروض والتعاملات الاقتصادية مع العالم.
لذا نلاحظ حرص بعض الانظمة السائرة في هذا الطريق لكسب الولاء وتهدئة بعض الخواطر، من خلال اسلوب الترضية والتهدئة بتوزيع فتات الثروة المنهوبة والمحتكرة على شريحة معينة على شكل منح مالية او مساعدات او سكن وغيرها، مما يجعل "الوعي الاقتصادي" امراً كمالياً وغير مبرراً، بل وبعيداً عن الواقع.
الوعي السياسي
ويتمثل في مكافحة الحالة الديكتاتورية في الحكم، وسماحة الامام الراحل يحذر من هذه الحالة ليس فقط في الانظمة الديكتاتورية الواضحة المعالم، إنما ايضاً في "الديكتاتوريات المغلّفة التي تنادي بالديمقراطية لكنها في مخالب الحزب الواحد وفي مخالب رأس المال...".
ان استمراء الحالة الديكتاتورية لدى هذا الحاكم او ذاك، تمكنه من المضي قدماً في طريق عسكرة المجتمع وخوض المغامرات المدمرة بعد افتعال الازمات وشن الحروب، فقد بات معروفاً أن الحروب والمعارك، تمثل افضل المختبرات لقوة الشخصية السياسية، كما توفر فرص عمل وخبرات وتجارب كبيرة لمصانع السلاح والذخيرة. ولم يريد المزيد، أن يراجع الاحصائيات والارقام المهولة التي تتحدث عن مدى اعتماد مصانع السلاح واصحاب الرساميل المغذية لهذه المصانع وآلاف العمال والمهندسين العاملين، على استمرار هذه الحرب الاهلية وتلك او استمرار الاقتتال بين هذه الجماعة وتلك الحكومة. وعندما نتحدث عن "الوعي" فانه يشمل الطبقة السياسية الحاكمة، كما يشمل الطبقة الواعية في المجتمع التي تعمل ضمن منظمات مجتمع مدني او ضمن مراكز اكاديمية وبحثية وعلمية. فالنائب في البرلمان والمدير والمسؤول كما الوزير، عليه أن يتحلّى بهذا الوعي الجمعي. فقد ظهر عضو اللجنة المالية في مجلس النواب العراقي على احدى القنوات الفضائية وهو يتحدث عن مشاكل الموازنة والعجز الكبير بسبب انخفاض عوائد النفط، وقال: "بدأنا بمراجعة المشاريع الحكومية ومحاولة تأجيل وترحيل غير الضروري منها، وعندما نصل الى موضوع التسليح والمعدات العسكرية لوزراة الداخلية – مثلاً يقول- نتوقف عندها ولا نتمكن من تجاوزها...". في مقابل هذا الموقف والتصور والقييم، لنلاحظ موقف آخر مثير للدهشة حقاً، من خبير ألغام فيتنامي استقدمته الحكومة العراقية للاستفادة من تجاربه في كسح ميادين الالغام في جنوب العراق، وبينما كان المندوب الصحفي يتحدث معه عن مسار العمل وتقييمه و... رد بإظهار إعجابه الكبير بالمساحات السهلية الخضراء والخصبة والصالحة للزراعة، و يا ليت تكون فرصة للاستثمار و...!
نعم؛ نحن نسمع بالمبادرات السياسية والتحالفات والتجاذبات وغيرها لإرضاء هذا وذاك، كما نسمع عن صفقات التسليح والتجهيز وتكالب الدول من الشرق والغرب على العراق لتقديم خدماتها في هذا الجانب، ولا نسمع بتاتاً عن افتتاح مشروع اقتصادي في مناطق النزاع، او حتى التفكير بإحياء المصانع او استثمار الثروات الهائلة المخزونة تحت الارض. ولا أدري؛ هل ان التحركات والمناورات السياسية والتسليح والتمويل، أكثر فائدة للموطن المأزوم والمنكوب من فتنة الارهاب المفتعلة، أم المشاريع التنموية والتخطيط للمستقبل بما من شأنه انتشاله من الحرمان والتخلف ، والعيش بسلام واستقرار؟
اضف تعليق