q

التفاعل الجماهيري المُبهر مع أوامر القيادة العلمائية في العراق المنتج لمشهد الاعتصام أمام المقار الحكومية في بغداد، وما تمخض ذلك من الاسهام في تسريع عملية الإصلاح السياسي والبحث عن تشكيلة وزارية جديدة تنأى عن شبهات الفساد، ذكرني بتبرّم أحد الاصدقاء قبل سنوات مما يسميه "وجود ظاهرة طاعة الناس لأوامر عالم الدين، يتحركون وفق ما يشير اليهم..."! ومن المؤكد أن يكون رأي الصديق وغيره، بشكل آخر عندما عَيت السبل لمواجهة غول الفساد، إلا إطلاق سيل الجماهير الهادر المنذر بالانفجار على بوابات المنطقة الخضراء.

وعندما نعرف أن العلاقة التكاملية بين الجماهير والقيادة، ليست من الظواهر الاجتماعية بشيء، او وليدة من حالات نفسية معينة قابلة للتغيير سلباً او ايجاباً، إنما هي معادلة ذات موازين ثابتة، فاذا اردنا تفاعل جماهيري منتج مع القيادة في الساحة السياسية، لابد من تقارب القيادة – بالمقابل- مع الجماهير، بكل ما تعنيه مفردة التقارب من احترام المشاعر والبحث عن حلول لمشاكلهم والدفاع عن حقوقهم. وربما يتفق معي القارئ الكريم، على أن صورة المرجع الديني الشهيد السيد محمد صادق الصدر – قدس سره- لا تفارق أذهان ومشاعر جميع المعتصمين من اتباع "التيار الصدري"، أما القيادة الحالية فانهم يرونها امتداداً طبيعياً لتلك القيادة الجماهيرية الناجحة التي شهدتها سني التسعينات من القرن الماضي.

المعادلة الحضارية

واذا تصدق هذه المعادلة في الشأن السياسي، فانها تصدق ايضاً في مختلف جوانب الحياة، مما يعطيها بعداً حضارياً، وأول من أكد مصداقية هذه المعادلة هو الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، في بداية وضع اللبنات للمجتمع الجديد، وربما يندر أن تكون روايات أحد صحابته خالية من حادثة أو اكثر عن التصاق النبي بافراد المجتمع، الصغير منهم والكبير، العالم منهم والجاهل ومن هو بعيد عن التحضّر والذوق وجاء من أعماق الصحراء. فكانت الابتسامة مرسومة على وجهه مع جميع هذه الفئات من البشر.

هذه الصفة تحديداً، هي التي حققت للنبي الطاعة على نطاق واسع في المدينة، وحولت العدد القليل في بادئ الأمر، من 313 مسلماً ممن شاركوا في غزوة بدر، الى حوالي 100ألف مسلم لدى فتح مكة. وبهذه المعادلة حمل المسلمون الاسلام في قلوبهم الى أصقاع الارض، قبل أن يحققوا في بلادهم تقدماً كبيراً في العلوم والمعارف والثقافة، لذا نجد ان المرجع الديني الامام السيد محمد الشيرازي – قدس سره- يجعلها ضمن "فرص التقدم" في كتابه القيم "عالم الغد"، بان "المسلمون كانوا يسلمون لرسول الله في كل صغيرة وكبيرة، وكانت قيادة الرسول، صلى الله عليه وآله، قيادة شعبية الى أبعد الحدود، مما يوجب التفاف المسلمين حوله، فسبب ذلك تقدمهم...".

وإذن؛ لمن يتحدث عن مراقي التقدم في العلوم والصناعة والزراعة والتجارة وغيرها، ما عليه إلا ان يأخذ بهذه المعادلة الحضارية كاملة غير منقوصة، وإلا استمر الجدل الدائر حالياً في دوامة مفرغة، عمن هو المسؤول عن المآلات الكارثية في الامة؛ الجماهير أم القيادة؟

إن شعوب مرت بكوارث هائلة، تجاوزت هزائمها وانتكاساتها، وحتى أخطائها المدمرة، وتلاحمت مع قياداتها ثم مضت في الطريق المظلم حتى آخر النفق، فهذا هو الشعب الياباني الذي خرج من الحرب العالمية الثانية مهزوماً، وبدلاً من أن يتبادل الاتهامات عمن المسؤول بزجّ البلاد والعباد في أتون الحرب ومشاركة المانيا النازية أوهام السيطرة على العالم بذريعة الجنس البشري الأفضل، فضلوا التلاحم مع قيادتهم المتمثلة آنذاك بالامبراطور "هيروهيتو"، الذي أقرّ بشكل ضمني بخطئه الفادح بالتحالف مع هتلر، كما فعل الشيء نفسه، الشعب الياباني الذي تصور أنه ذو الدم الأنقى في العالم. ويروي المؤرخون أن الامبراطور تحول من قائد لحرب تسبب بسقوط الملايين من القتلى ودمار هائل وشامل لبلاده، الى قائد لحملة الاعمار والبناء، وكانت البداية في تبرؤه من جميع دعاوى القداسة التي خُلعت عليه، كما خلعت على غيره في العهود الماضية، ورضي بأن يعامله الدستور، الذي وافق عليه عام 1947، من سيّد مهيمن الى مجرد رمز للدولة، ثم ترك السلطة لنواب البرلمان. ثم طاف هذا الامبراطور في أنحاء بلاده وزار المناطق المنكوبة والمدمرة وتفقد عمليات إعادة البناء، وشجع على اكتساب المزيد من العلوم والتجارب والخبرات من الخارج. وهكذا تحولت اليابان من أرض خربة، الى منطلق للتقنيات الحديثة والصناعات المذهلة التي باتت رمز الجودة العالمية طيلة عقود من الزمن.

خطوتان أساس

رغم المعرفة الواسعة بأهمية سلامة العلاقة بين الجماهير والقيادة، وأنها الشرط الأساس في أي خلاص أو انتصار أو تقدم، لا نلاحظ الاهتمام الموازي لهذه المعرفة، كما لو أن هنالك نوعاً من الرضى بالتخبط الموجود والعلاقة المختلّة، وإن حصل نوع من التحسين او إعادة الحياة – إن صح التعبير- فانها بسبب ما يداهمنا من مخاطر وتحديات ماحقة تهدد العرض والارض والمقدسات، كما حصل في الحملة الجماهيرية الواسعة للتصدي للتوسع الداعشي في العراق. في حين ان المقصد الحضاري لهذه العلاقة هو وصول الانسان – الفرد والمجتمع- الى أفضل نمط من الحياة والعيش الكريم، واستعادة أمجاد الماضي التليد.

وفي كتابه "السبيل الى إنهاض المسلمين" يشير سماحة الامام الشيرازي – قدس سره- الى أن "فقدان التنظيم صلته بالجماهير يجعله يعيش في الفراغ ولا يتطور، وبالنتيجة لا يستطيع تقديم الامة الى الامام، واذا كان التنظيم جماهيرياً فانها تغذيه، فينمو ويتوسع حتى يستوعب العالم الاسلامي، وعندئذ تتحقق اليقظة الكاملة والحركة الشاملة ثم مكافحة الاستعمار وطرده".

وهذه ليست من المثاليات إطلاقاً، عندما نتصفح تجارب التاريخ الخاص بنا كمسلمين، وتاريخ الأمم الاخرى. فالقضية تتعلق بالثقافة والاخلاق والآداب، اكثر ما تتعلق بالمسائل الدينية والالتزام بالاحكام الشرعية. لذا نجد سماحته يحدد – في الكتاب ذاته- خطوتين أساس في هذا الطريق؛ الاولى: النزاهة، والثانية: الاحترام.

فالقائد الذي يفضّل المصالح المادية الخاصة الى الصالح العام، او ربما يكون ستاراً كثيفاً لاتباعه لأن يتوغلوا في مستنقعات الفساد والمحسوبية والتصرف بالمليارات حسب اجتهاداتهم الخاصة، فانه سيضع نفسه ضمن دائرة السؤال ويسقط من أعين الناس، مهما كانت مكانته العلمية والاجتماعية.

والنزاهة، كما تكون في المال، فانها تكون ايضاً باللسان والسلوك والتصرفات مع الناس ومع جميع فئات المجتمع، مع الاستدراك بأن الانسان مهما فعل، لن يكون معصوماً عن الخطأ والزلل، مما يدفع القائد اكثر الى السعي للارتقاء الى أعلى مستوى من النزاهة في اليد واللسان والقلب، وكلما زادت مرتبة النزاهة، تعمّقت ثقة الناس اكثر، وكانت اكثر طواعية لما يدعو ويقول.

أما عن احترام الناس والجماهير، فانها بالحقيقة، تعد الضالة والقاتلة لكثير من التنظيمات والقادة في تجارب عديدة مرت بها الامة، وشكلت خسائر لفرص كبيرة كان يفترض ان تتحول الى انتصارات بدل من ان نشهد إزهاق الملايين من القتلى ودمار هائل وخسائر مادية لاتعوض، والسبب الجدار الكبير والعالي الذي يصنعه البعض ممن يحسبون انفسهم في خانة المثقفين والمفكرين، وليس من شأنهم النزول الى الشارع وما فيه من تخلّف ثقافي وفوضى.

إن نظرة التمييز وحالة الاحتقار التي يتحسسها الشارع بشدّة، لاسيما في الوقت الحاضر، من شأنها ان تهدد أي عملية نهوض او إصلاح او تغيير، إنما يبقى الحل الوحيد أمام الانظار هو الانفجار والدمار، لإيمان الجميع بأن المخرج من عنق الزجاجة، هو تدمير الكيان السياسي والدولة باكملها وايجاد بديل جديد. وهذا قطعاً، يمثل رد فعل عفوي وطبيعي لواقع سيئ و مرير، رغم عدم إدراك الناس لخطورة ما يذهبون اليه.

وعليه فان النخبة الثقافية والسياسية، أن تزيد من علاقاتها وصلاتها بجماهير الشعب، وتدع أفكارها ونظرياتها للشريحة الواعية والمثقفة لديها، على أمل توسيع هذه الشريحة تدريجياً، ليعرف الناس أن هذه الافكار والتوجهات، سواءً كانت في إطار تنظيم سياسي او شخصية قيادية، جديرة بانقاذهم من محنتهم، بل وتمنحهم فرصة المشاركة الفاعلة في عملية النهوض والتقدم.

اضف تعليق