يتوقف العلماء ملياً عند ظاهرة، قديمة – جديدة، في بعض المجتمعات والشعوب المصابة بالازمات والمشاكل الداخلية منها والخارجية، مثل الكوارث الطبيعية وانتشار الاوبئة الفتاكة، ومثل الحروب والتحديات الخارجية بمختلف اشكالها، فهم يتوقعون تأثير افرازات هذه الازمات على الحالة النفسية لافراد تلكم المجتمعات، فتحيلهم كائنات عاجزة، منطوية، يائسة من الحياة ومن أي احتمال بالتغيير نحو الاحسن. بينما يلاحظون حالات عديدة، على صعيد الافراد والمجتمعات، نوعاً من انواع الانتفاض على الواقع ومحاولة تغيير مساره لصالحهم وخلق واقع جديد ملئه التفاؤل بالغد المشرق، ومن ثم تحقيق مكاسب باهرة في مجالات التنمية الاقتصادية والتطور العلمي وحتى الثقافي والفكري. فما هو السرّ وراء هذه الانطلاقة العجيبة؟.
بعض العلماء يذهبون الى أن الانسان يمتلك "طاقة الحياة" التي تتحرك وتعمل على تعويض الأذى النفسي والجسدي الذي يحلق به، او بالمجتمع بشكل عام، وهذه الطاقة تخلق نوعاً من المرونة والقدرة على التكيّف مع الظروف والمستجدات بما يوفر القدرة على امتصاص الصدمات النفسية او ترميم التصدعات الناجمة عن انتكاسات في مجالات مختلفة بالحياة، ربما تكون في الاقتصاد او السياسة وغيرها.
في كتابه القيّم "عالم الغد" يذّكر سماحة المرجع الديني الامام السيد محمد الشيرازي – قدس سره- بالحقيقة الناصعة، وهي أن "الايمان" وحده، هو سر نجاح كل انطلاقة نحو التغيير والتقدم، سواء للافراد او الجماعات. ويؤكد على "أن القران الكريم اول مبعث لانطلاقة المسلمين تلك الانطلاقة المذهلة التي اعترف الغرب أنها كانت وراء النهضة العلمية في الغرب وان المسلمين هم آباء العلم الحديث".
ربما يذهب البعض في تصورهم بأن الايمان يؤدي الى المعنويات والاخلاقيات والعبادات وحسب، في حين يترك الايمان آثاره النفسية المباشرة على فكر الانسان وسلوك وتصرفاته، وهذا ما أثبتته التجارب في مقاطع من تاريخ المسلمين بتحقيقهم انجازات كبرى، سواءً على الصعيد العسكري في فتوحاتهم وانتشارهم، او على صعيد العلم والمعرفة، وهذا لم يكن إلا بوجود مبدأ "الخوف والرجاء" مكرساً في النفوس؛ فالخوف من مغبة الانزلاق في مهاوي الانحراف ومن ثم العقاب في الدنيا والآخرة، والرجاء بالنجاة والفلاح في جميع جوانب الحياة.
هذا التوازن الرائع لم يكن لولا ثقافة القرآن الكريم الداعية دائماً الى الحياة السعيدة، لذا فان "آيات التذكير بالجنة والنار تحفز الانسان على الاستقامة وصحة العمل والتقدم الى الامام، بينما الخوف والرجاء، يدفعان الانسان الى العمل والى الوقوف في مواضع الوقوف، والى الانطلاق في مواضع الانطلاق".
بمعنى أن الايمان بعدالة قضية ما وحقانيتها هو الذي يرفع شعب بل وأمة من حالة اليأس والاحباط والهزيمة النفسية، الى آفاق المستقبل الواعد. وهذه تمثل فرصة لأي انسان في كل مكان، بأن ينمي الايمان في نفسه، ويعمل وفق المعايير السماوية التي تنطبق مع فطرته وضميره، ولا يحيد عن الحق والعدل والفضيلة، فان الله – تعالى- ذو القدرة الغيبية اللامتناهية، سيكون المسدد له والناصر، وهذا تصريح القرآن الكريم بقوله: {إن تنصروا الله ينصركم}. فالذي ينصر الله – تعالى- لابد أن يكون مؤمناً خالصاً به وبتعاليمه واحكامه.
واذا نجد الانتكاسات اليوم في غير بلد وعند اكثر من شعب في هذه الامة، فان مردّه الى تراجع الايمان في النفوس والاستعاضة عنه بأمور يتوهم البعض أنها أداة الحسم ووسيلة النجاة، مثل المال والسلطة والسلاح والقدرة على التضليل وفرض الامر الواقع، الامر الذي أدى بالنتيجة الى فقدان المعيار الصحيح، وهو حال الشعب العراقي – مثلاً- بتخبطه الرهيب في تجارب متتالية للحكم على أمل الوصول الى بر الأمان، ولكن الملاحظ هو بقائه وسط أمواج التحالفات السياسية والمصالح الاقليمية والدولية، ولا يعرف الناس ما سيكون مصيرهم يوم غد!
نعم؛ يجرب الشعب العراقي الحالة الايمانية في التغلّب على الانتكاسات الموجودة في الهبّة الجماهيرية لخوض المعارك ضد تنظيم داعش الارهابي، بفضل فتوى الجهاد الكفائي التي اصدرتها المرجعية الدينية، بيد أن هذ الهبّة يجب أن تنسحب على جميع مفاصل الحياة، لان حياة الشعوب المتقدمة لم تكن دائماً في سوح الحرب والقتال، إنما هي مرحلة الدفاع ومواجهة التحديات من احتلال وتجاوزات وغيرها، ومن ثم يأتي دور البناء والاعمار واستنهاض الكفاءات والعقول المبدعة لخلق واقع جديد يفرض نفسه على العالم اليوم.
اضف تعليق