ما أحوج العراقيين اليوم الى الإصلاح، السياسي، والاقتصادي، والتعليمي، والصحي، وفي كل ميادين الحياة، تُرى ما هو حجم الفرص المتاحة لتحقيق هذا الهدف الكبير، وهل أن فرص تحقيقه ممكنة حقا في ظل الظروف العصيبة التي يمر بها العراقيون خصوصا، والعرب والمسلمون على وجه العموم؟.
إننا نلاحظ حركة شعبية مستمرة منذ سنوات في العراق، تخرج الى الشارع في تظاهرات واحتجاجات، تطالب في تحقيق التغيير المنتظر منذ عقود وسنوات طويلة، في الحقيقة لم تتعب الجماهير العراقية ولم ينل منها اليأس، وما انفكت تطالب الحكومات بالتغيير والاصلاح والقضاء على الفساد بأنواعه، لاسيما الفساد المالي والاداري والتجاوز على المال العام، وأهمية استرداد الأموال المهدورة والمختلَسة، ولا يزال الشعب يواجه الطبقة السياسية بكل إخفاقاتها، وبات الانسان البسيط والواعي يطالبان المسؤولين الحكوميين بالعمل على الاصلاح أو مغادرة السلطة.
ولكن ليس من السهل ترك السلطة لمن غرق في امتيازاتها، إلا أن الاصرار على المضي في طريق الخطأ، لن يجلب النفع لأحد، لذلك على الطبقة السياسية في العراق (الكتل والاحزاب والشخصيات السياسية)، أن تأخذ بعين الاعتبار تحذيرات الجماهير، فهناك بالمقابل إصرار على جماهير على تحقيق التغيير والاصلاح، وهذا ما تنبأ به الفقيه السعيد، الراحل، آية الله، السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي (قده)، الذي أصرَّ على إمكانية التغيير والاصلاح عندما قال سماحته:
(من الممكن أن يتساءل أحدنا: هل التغيير والإصلاح أمر ممكن وقريب المنال؟ والجواب: نعم بإذن الله (عز وجل) وإن أدل دليل على إمكان الشيء هو وقوعه في الخارج، فالمؤمنون الأفذاذ تحركوا من أجل التغيير في أشد الفترات التاريخية حرجاً وأحلكها ظلمة وقد نجحوا في ذلك مرات ومرات).
ركائز تحقيق الإصلاح
من هنا ينبغي أن يتحلى صنّاع القرار بعمق التفكير وعليهم ملاحظة إصرار الشعب على الإصلاح، والانطلاق نحو بناء العراق الحضاري، لاسيما أن مقومات مثل هذا البناء متوافرة، على المستوى الاقتصادي والاجتماعي وغيرهما، ولم يبق سوى الاستعداد السياسي لتحقيق مثل هذا الهدف، أي أنه على الطبقة السياسية الحالية الشروع الفوري في تحقيق الإصلاح، من عمق التفكير ودقة الملاحظة، التي أشار إليهما الفقيه الشيرازي في قوله: (إن نمط التفكير ليس شأناً مجرداً، بل إنه يؤثّر على كل القرارات التي يتخذها الفرد من المسكن وحتى المدفن، لذلك فإن الملاحظة الدقيقة والتفكير العميق هما الخطوة الأولى التي لا غنى عنها في أية مسيرة حضارية).
علما أن هناك ركائز قوية ومهمة ينبغي أن يستند إليها الاصلاح منها تحديد الهدف والتمسك بالأمل بصورة قوية ومؤمنة، حتى تبدأ انطلاقته بصورة حقيقية، ويتم تفادي الانزلاق نحو مستقبل مجهول، ولا شك أننا نحتاج الى الأمل بالتغيير، ووضع هذا الهدف أمام سعينا وإرادتنا، حتى يكون بمقدورنا السعي المتواصل إليه، فكما يقول الفقيه الشيرازي:
(علينا مقاومة حالة افتقاد الأمل أو حالة العيش بلا هدف).
ولا شك أن القائد السياسي والعمل في ميدان السياسة، يحتاج الى مقوّم آخر مهم جدا، يتعلق بركيزة الأخلاق، فمن دون هذه الركيزة الأخلاقية الحقيقية، يكون السعي نحو تحقيق الأهداف الكبيرة التي تفيد الناس أمرا عسيرا، بحيث يسعى الانسان الى الفائدة الفردية على حساب الآخرين، أو أنه يغفل فائدة الآخرين اذا لم يتحلّ بالأخلاق، لهذا السبب أكد سماحة الفقيه الشيرازي قوله في هذا المجال:
(كلما كان الإنسان أكمل في أخلاقه كان أكمل في قوّته العملية وفي عقله العملي).
كذلك عند الشروع الحقيقي نحو الاصلاح السياسي، علينا أن نمهّد لهذا الاصلاح بصورة عملية دقيقة، فالنفس البشرية تحتاج الى متابعة ومراقبة، وينبغي أن يكون من يتصدى لهذا النوع من الاصلاح قادرا أولا على قيادة نفسه وليس العكس، لأن النفس اذا قادت الانسان سوف تؤدي به الى مزالق وانحرافات لا حصر لها، فكيف اذا كان هذا الانسان صاحب منصب سياسي حساس او مهم، في هذه الحالة اذا كان غير محصّن ضد رغبات نفسه فإن تحقيق الاصلاح يغدو مستحيلا، وهذا ما يحدث الآن بالضبط، فجميع الاشكالات التي يعاني منها العراقيون تعود الى أن بعض من يقودهم غير محصن نفسيا ضد الانحراف، لهذا اذا اردنا أن نحقق خطوات صحيحة وحاسمة على طريق الاصلاح، ينبغي أن نلتزم بما قاله الفقيه الشيرازي حول ذلك:
(إن النفس البشرية تمثل القيادة لكل القوى الظاهرية والباطنية، وكل تلك القوى تمثل تحت هيمنة قوة النفس، ومن هذا المنطلق، تجدون في الروايات تركيزا كبيراً على قوة النفس، فالروايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) تُبِّين أن التوجه الأهم للإنسان ينبغي أن يكون نحو النفس، لأن هذه النفس إذا هُذِبتْ، وإذا صَلحَتْ، صلحت حياة الإنسان. وإذا كانت النفس، نفس غير طيبة، معناه أن كل تلك القوى الظاهرية والباطنية تكون أدوات ضلال وانحراف).
خطورة الشعور بالاكتفاء
ولهذا ينبغي أن يكون السياسي الذي يتصدى للاصلاح محصنا ضد الانحراف، علما أن هذا النوع من الحصانة الذاتية، يعد من أصعب القضايا، لدرجة أن الانسان الذي يتمكن من ردع نفسه والسيطرة عليها، يعد من أكثر الناس شجاعة، كما يؤكد ذلك سماحة الفقيه الشيرازي في قوله الدقيق والواضح: (إن أشجع الناس من غلب هواه، وإن أعدى أعداءك، نفسك التي بين جنبيك كما في الحديث، وإنها العدو الأخطر! وتفسير ذلك، يكمن بأن كل شيء مرهون بهذا العدو (النفس)، فإذا تمكَنْتَ أنْ تُخضِع هذا العدو، وأن تَصْلح هذا ضِع العدو، ستعيش بأمان، وإذا لم تتمكن أن تُخضع هذا العدو، فحياتك ستكون في عناء وفي الآخرة في شقاء).
وعندما يتم الشروع بالاصلاح، فحتى لو كانت البداية صحيحة، ينبغي أن يكون هناك اصرار على المواصلة وإرادة قوية على متابعة السير في الطريق الصحيح وصولا الى النتائج المطمئنة، لذلك ينبغي التشبث والتمسك بالهدف الأهم وفقا لنظرة بعيدة المدى، وعدم الاكتفاء بالبدايات الجيدة، بل ينبغي متابعة ومراقبة التقدم في مسيرة الاصلاح والتغيير.
كما يؤكد ذلك سماحة الفقيه السعيد عندما ينبّه في هذا المجال: (يقول علماء الأخلاق إن من أعدى أعداء الفرد الشعور بالاكتفاء، لأن الذي يشعر أنه مكتف من الناحية العلمية أو الأخلاقية لا يرى مسوّغاً للتحرك نحو التكامل الخلقي أو طلب العلم)، او التغيير والاصلاح الذي يتعلق بحاضر الجماهير ومستقبلها، من هنا على من يتصدى لمسيرة الاصلاح الفعلية، أن لا يتوقف عند حد معين او نقطة ما، قد يرى فيها تمثل مرحلة كافية من الاصلاح، بل على العكس من ذلك، يجب أن يكون هناك عمل دؤوب ومتواصل، وشعور دائم بعدم الاكتفاء، حتى يبقى العاملون من اجل التغيير والاصلاح في حالة نشاط دائم لتحقيق هدف الشعب والجماهير التي لا تزال تنتظر المزيد من الاصلاحات وتحقيق التغيير المطلوب.
اضف تعليق