من الطبيعي أن تكون حالة الصعود تدريجية بمراعاة المراقي الموجودة، وأي خلل من شأنه ان تأجيل الوصول الى الهدف المنشود، او ربما السقوط والفشل التام. وهي مسألة – تبدو- بديهية جداً، بيد أن واقعنا السياسي المسكون بالتوتر، لم يدع مجالاً للتأمل في حالة التهافت والتطاول واللهاث على المكاسب جعل على عيون الكثير "غشاوة"، فبات كل ما يفعلوه عين الصواب، ولا مجال لمناقشته، حتى وإن جاءت النتائج عكسية وكارثية.
وكلما زاد التوتر السياسي، كلما زادت الحاجة الى طي المراحل والمراقي أو كما يُقال بـ"حرق المراحل" لتحقيق الاكثر ثم الحصول على المطلوب. علماً أن المتصدين لهذا الشأن يدركون جيداً حاجة القاعدة الجماهيرية الى النضوج السياسي لا نجاح مشاريع الاصلاح والتغيير، ومما نستفيده من "الربيع العربي"، هذه النقطة تحديداً، عندما اكتشفت الشعوب العربية في وقت متأخر، أن ما قامت به من "حراك جماهيري"، على شكل تظاهرات احتجاجية، ثم حمل السلاح، كان أقل بكثير من عمق الفساد السياسي والاقتصادي والاجتماعي في بلادهم. وربما يمكن القول: أن ثمة نوعاً من التغرير كان خلف الستار، يعبئ الشارع ويشجعه على القيام باعمال لا يدرك عواقبها على المدى البعيد، وربما حتى القريب. فكان التظاهر والاحتجاج من اجل الاحتجاج.
لذا نجد أن الشعوب التي كانت في مقدمة الحراك وفي طليعة المضحين، هي نفسها كانت أول الخاسرين، واذا انطبق هذا على بعض الشعوب العربية "الثائرة" فانه قريب التطابق مع الوضع العراقي، حيث نلاحظ ثمة محاولات للزجّ والدفع بقوة نحو ساحة المواجهة دون إعداد أو أدوات.
العجز عن الإبداع والتجديد
عملية التنمية وفق السياقات الصحيحة، بحاجة الى وقت وجهد، وهل من يزرع شتلة في الارض يراها شجرة باسقة ومثمرة بعد أيام...؟!، هذا ما فهمه الغربيون في عهد النهضة، فقد بنوا الامة فكرياً وثقافياً، وعلى هذا الاساس وضعوا لبنات النظريات الاقتصادية، ومن ثم جاء دور البناء السياسي، فالأرستقراطية تراجعت لتحل محلها البرجوازية بعد الثورة الصناعية وانحسار طبقة "النبلاء"، فكان الفضل في بلورة النظرية الليبرالية يعود الى مراحل التطور الاقتصادي في اوروبا، عندما زحفت الآلة والمكننة على وسائل الزراعة البدائية. فقبل ان يكون الانسان الاوربي – الغربي، مشاركاً في أي عملية سياسية، كان مشاركاً وفاعلاً في العملية الاقتصادية، من قبيل توسيع الثروة الحيوانية وتطوير الزراعة ثم دخول عالم التكنولوجيا والتصنيع، كل ذلك في ظل الثورة الصناعية.
وعندما نقرأ بأن الانتخابات البرلمانية في اوروبا، ورغم تجربتها الطويلة، كانت تحرم المرأة من المشاركة والإدلاء برأيها حتى بدايات القرن العشرين، فهذا يفسر الحرص البالغ على ان تكون هذه المشاركة مفيدة للعملية السياسية آنذاك.
وفي بلادنا، ومنها العراق، شعوب عاشت قرون طويلة من الزمن بعيدة عن شيء اسمه حرية الرأي او أن يكون للانسان دور في تقرير مصيره فضلاً عن المشاركة في صنع القرار، ثم فجأة يجد نفسه وجهاً لوجه أمام البرلمان والحكومة، وينتظر منه الجميع أن يمدّ يده لخوض التجربة الفريدة...!.
وهذا بالحقيقة مثار تساؤل، عن السبب وراء هذا العمل...؟
هنالك جملة أسباب تدعو البعض من الساسة وأهل الحل والعقد، لعدم مراعاة النمو الطبيعي للعقلية السياسية لدى المواطن الذي يراد له المشاركة في اتخاذ القرار تحت شعار "الديمقراطية"، منها العجز الواضح في الرصيد الفكري والثقافي بما يؤهلهم لتحقيق تنمية حقيقية وطبيعية للقاعدة الجماهيرية.
نعم؛ هنالك افكار وطروحات قديمة غير قابلة للتفاعل والتجديد مع تطورات العصر، فعندما تكون الجماهير في بلد مثل العراق، منفتحة على العالم الرحب، بما فيه من ثقافات وافكار وحتى عادات، لابد من وجود ندّ جدير بالمقابل يثبت انه الخيار الافضل، وليس الوافد من هذه الافكار والثقافات. ولذا نجد أن شريحة واسعة من النازلين في الميدان للتظاهر والاحتجاج صباحاً، يتجهون صوب اهداف، غير التي يتجهون اليها في المساء برفقة مواقع التواصل الاجتماعي ومواقع النت والقنوات الفضائية. ففي الصباح يتناولون فطورهم مع السياسيين، وفي المساء يستلهمون ثقافتهم من الانترنت والفضائيات.
وهذا الذي جعل المرجع الديني الامام السيد محمد الشيرازي – قدس سره- ينفرد في دعوته النهضوية الى ضرورة "الهدم قبل البناء". وفي "السبيل الى انهاض المسلمين" يؤكد أن "لبناء الشخصية الاسلامية ثقافياً نمر بمرحلتين طبيعيتين هما: الهدم أولاً: والبناء ثانياً، فالمرحلة الاولى هي تحطيم الثقافات الاستعمارية، وهدم البنى الفكرية المستوردة، ثم معرفة الامراض الكامنة في جسد الامة الاسلامية..."، هذه المعرفة هي التي تشق طريق النهضة والتقدم أمام الشعوب لتصل الى مرادها بنجاح مع اقل الخسائر.
الوعي السياسي والنفس الطويل
والقضية ليست بهذه السهولة لان الهدم وإزالة التراكمات الخاطئة وإزالة آثار الفساد، بحاجة الى وعي متكامل يسمح بنجاح هذه العملية الصعبة، ولذا نجد أن سماحة الامام الشيرازي يؤكد دائماً على أهمية ومحورية الوعي في الامة، وذلك من خلال نشر الثقافة التي تعيد الامة الى حقيقتها الحضارية وتعرف أن الواقع الذي تعيشه يبتعد مسافات عن تاريخها وهويتها، ثم التعرّف على معاني عديدة لمفاهيم سياسية مثل الديمقراطية والفيدرالية وحتى الحرية الفردية والجماعية وغير ذلك كثير.
وهذا لا يتم إلا عبر فترة طويلة من الزمن، وهو بحاجة الى طول نفس وأناة، كما هو شأن كل عمليات التغيير الثقافي في العالم، وربما تكون الحاجة الى صياغة جيل جديد يكون قادراً على مواكبة التطورات السياسية، ويكون ذو شأن في التأثير على مجريات الامور، كما هو حال الشعوب في الدول المتقدمة. وهذا تحديداً ما لا يتوافق مع طبيعة التسرّع التي يتصف بها الساسة المهووسون بالسلطة والامتيازات والمكاسب، فيما جماهير الشعب تندفع تارة ذات اليمين، وتارة أخرى ذات الشمال دون ان تصل الى شاطئ الأمان.
اضف تعليق