يتذكر العراقيون كيف كانت الأنظمة السابقة تتعامل معهم عند قيامهم بالتظاهر لأي سبب كان، فبعض الانظمة استخدمت وسائل تعنيف خطيرة، واخرى مارست القتل بصورة علنية، وأخرى خاضت حربا ضد المتظاهرين وكأنها تخوضها ضد جيوش معادية، فحلّقت الطائرات وضربت جموع المتظاهرين، فيما كان الرصاص الحي هو الاسلوب الأكثر حضورا واستخداما ضد المتظاهرين، وقد بقيت بعض تلك الأساليب حاضرة في عصر ما بعد نيسان 2003، ولكن بدأ نوع من التنظيم يسود المظاهرات، كي تصبح أكثر تحضّرا وتأثيرا في الساحة العراقية.
إن حق التظاهر يعد من أهم الحقوق التي تسعى الدول المتقدمة الى الحفاظ عليها، كونها تمثل معيارا لتقدم النظام السياسي وتطور المجتمع واستقرار الدولة، ومن دونها يغدو بناء الدولة التي تحمي الحقوق والحريات مستحيلا، اذ لا يمكن بناء الدولة التي يطمح لها الفقراء وعموم الشعب، من دون اعتماد قيم التقدم المذكورة، لأن غيابها أو ضعفها يشكل هدرا أكيدا لجميع الفرص التي تهدف الى بناء دولة المؤسسات الدستورية التي تحمي المواطنين تحت خيمة قوانين عادلة وقوية، وهو ما يميز الدول المعاصرة التي يسودها القانون.
إن الخروج في مظاهرة تعني الاحتجاج على النظام السياسي، بسبب اخفاقات في جوانب تتعلق بما ينبغي أن تقدمه الحكومة لشعبها، ويجري اثناء التظاهر اعلان التقصير والعجز الذي تعاني منه الحكومات ازاء ما يحتاجه الشعب لتحقيق حياة كريمة تليق بالبشر، بهذا المعنى فإن حالة التظاهر تنتمي الى الحالات المشروعة والخلاقة، كونها تهدف الى التصحيح، والى تنبيه الدولة والحكومة والجهات المعنية الى مواطن الخلل هنا او هناك، كما انها قيمة جوهرية لمحاربة الفساد بشتى اشكاله واصنافه، في مفاصل الحكومة والدولة والجهاز الحكومي الاداري عموما، فهي عملية تصحيح سلمي أولا وأخيرا، واذا خرجت عن هذا الاطار فسوف تدخل في اطار الأعمال العدائية التي تهدف الى ضرب المجتمع وهيبة الدولة.
علما أن ثمة ضوابط متفق عليها تكفل هذه المظاهرات كما نلاحظ ذلك في جميع التشريعات الدولية وحتى المحلية، اذ ليس هناك دولة او حكومة تمنع حق التظاهر علنا، حتى الحكومات المتسلطة القسرية تخشى من اعلان منع التظاهرات علنا، لكنها تلجأ الى الكثير من الخطط والاساليب الخفية والعلنية لكي تشل التظاهرات وتمنعها من تحقيق النتائج المبتغاة، لأن التظاهرات وسيلة عصرية وجوهرية لتصحيح الاخطاء الحكومية والادارية، لاسيما الاخطاء والجرائم التي تتعلق بالفساد وغسيل الاموال والاختلاس والتجاوز على المال العام، ومحاولات الاستئثار بالسلطة والتمتع بالامتيازات المالية والمادية على حساب الشعب.
وعي الشعب لأهداف التظاهر
في عصرنا الراهن، ليس هناك وسيلة للتعبير عن الرأي المعارض والاحتجاج، أقوى وأوضح وأسرع من التظاهر، لهذا صدرت مجموعة من القوانين الدولية والمحلية التي تصون هذا الحق، وتمنع المساس به من لدن الانظمة، خاصة المستبدة، ولكن ينغي أن يتذكر الجميع، مثلما يُمنع النظام السياسي من القمع ويُحاسَب عليه، فإن جمهور المتظاهرين عليهم الالتزام بطريقة جيدة للتظاهر، وأهم نقطة في هذا الجانب سلمية المظاهرات، وحماية النظام السائد، وعدم التجاوز على الملكيات الخاصة (للأفراد) والعامة (المنشآت الحكومية)، وأي سلوك يخرج بعيدا عن هذا الاطار السلمي للمظاهرات سوف يجعل منها فعل عنيف يقع خارج القانون، يستحق المحاسبة والمعاقبة عليه.
هذه هي الضوابط التي تحيط بحق التظاهر كي تجعله سلميا واعيا وفاعلا في الوقت نفسه، لهذا وعت الشعوب والمجتمعات أهمية التظاهر، كونها اسلوب متحضر يتسم بالسلمية لتحقيق مطالب مشروعة، ولكن أحيانا قد تُستثمر هذه التظاهرات بطريقة خاطئة، فيتم توظيفها في غير محلها واهدافها، لاسيما اذا كانت خاضعة لاجندات خارجية او داخلية لا تهدف الى التصحيح السليم، بل تخضع لتصفية الحسابات السياسية بين الخصوم، الامر الذي ينعكس بالضرر الفادح على الشعب، لذا من المهم جدا أن يتنبّه المتظاهرون جميعا، خاصة بسطاء الوعي والثقافة منهم، يتنبهون الى المحاولات التي قد تجر المتظاهرين والتظاهر الى طرق واهداف ملتوية لا يريدها المتظاهرون ولا يبحثون عنها اصلا، بل هي اهداف قد تكون مدسوسة من لدن جهات ودول اقليمية او دولية تسعى الى تخريب وحدة الشعب من خلال جعل التظاهرات ساحة للتطرف والضغينة بين ابناء الشعب الواحد، لذلك اذا كان المتظاهرون اصحاب حق، عليهم أن يتنبهوا الى الدسائس، وأن تبقى الوحدة الوطنية هي الفنار العالي الذي ينظر اليه الجميع ويهتدي من خلاله الى الشاطئ الصحيح، ممثلا بالحفاظ على وحدة الشعب ووحدة البلاد ايضا، وعدم اتاحة الفرصة للمتصيدين بالماء العكر، كي يزيدوا من شحنات التنافر بين ابناء ومكونات الشعب الواحد، ولكي تعطي المظاهرات نتائج طيبة تخدم المجتمع والدولة، ليس هناك مناص من الالتزام بالطابع السلمي للمظاهرات.
أهمية الطابع السلمي للمظاهرات
من الواضح ان الكلام اعلاه مستل من واقع التظاهرات في دول عربية عديدة منها مصر وتونس والبحرين والعراق الذي يشهد حاليا تظاهرت متواصلة تطالب الحكومة بالاصلاح، وهو حق مكفول ورأي ينبغي طرحه بطريقة متحضرة، ولا يجوز قمعه مطلقا، مثلما لا يجوز للمتظاهرين تحويله الى أعمال عنف مؤذية للشعب والحكومة معا، وبهذا فإن حق التظاهر هنا يصب في الجادة الصواب، ولكن هناك محاولات قد تدفع المظاهرات في اتجاهات مخالفة للقانون، كأن تتحول الى استخدام العنف، ويحاول البعض استهداف النظام المجتمعي المعتاد، هنا ينبغي التنبّه الى هذه الحالات ومنعها وتحديد القائمين بها ومنعهم عن الاساءة لسلمية المظاهرات، لأن العراقيين بالنتيجة يعرفون تماما ماذا تعني المظاهرات اذا تحولت الى فوضى غير منضبطة، خاصة أن الجماهير حتى اللحظة قدمت نموذجا رائعا للمظاهرات السلمية المتحضرة.
طالما أن الشعب العراقي بحاجة الى المظاهرات، والخروج بها في تجمعات كبيرة في العاصمة والمحافظات، فإننا في الحقيقة ينبغي أن نتنبّه الى أمر آخر يضاهي هذه الحاجة قيمة وحجما، فمثلما يحتاج الشعب أن يعبر عن رأيه بالأداء الحكومي، ويحتج على ضعفه، ويرفض بعض الظواهر التي تتعلق بالفساد المالي والاداري، فهناك حاجة كبيرة ينبغي أن يفهمها الجميع، وهذه الحاجة تتمثل بالحفاظ على الأمن العام، واحترام النظام العام، وتكريس هيبة الدولة، وهذا يمكن أن يتحقق عندما تكون المظاهرات سلمية منضبطة.
لذا علينا جميعا وأعني العراقيين اولا، أن نفهم حدود المظاهرات وماذا تعني، وما هي اهدافها، وكيف تجري في حدود القانون، والأهم من ذلك ينبغي أن نعرف ما هي أهمية سلمية هذه المظاهرات، وعدم لجوء المتظاهرين الى الاضرار بموارد البلد ودورته الاقتصادية التي تهم ملايين العراقيين في شماله ووسطه وجنوبه وشرقه وغربه، وان لا تتحول هذه الفعالية المتحضرة الى عائق لتقدم البلاد بدلا من اهدافها الحقيقية التي تبتغي تقدم وتطور البلد من خلال تصحيح الاخطاء الحكومية بحق الشعب.
وقد يتساءل بعضهم هل يمكن أن تتحول المظاهرات الى الضد من أهدافها؟ الجواب من الممكن أن يحدث ذلك، اذا لم يتم مراعاة الانضباط المطلوب للمتظاهرين، واذا خرجت الامور خارج اطار الطابع السلمي لها، هذا ما يجب أن يركز عليه القائمون على المظاهرات، ومع اهمية مواصلة الضغط على الحكومة من اجل الاصلاح ومحاسبة الفاسدين، هناك اهمية موازية لها، وهي الحفاظ على الطابع السلمي البحت لهذه المظاهرات في اطار القانون والنظام العام.
اضف تعليق