لم افهم حتى اللحظة، ومنذ اول مرة اجلس فيها على كرسي الحلاق، هذه القدرة العجيبة على الكلام المتواصل في شتى المواضيع ومع مختلف الزبائن اعمارا وثقافات، اول حلاق جلست على كرسيه على ما اذكر، كان مجاورا لدكان جدي، وكان اسمه قادر، ثم تعددت الكراسي وتعددت اسماء الحلاقين.
ورغم هذا التعدد والاختلاف في الطبائع والاذواق والمذاهب والقوميات (ربما انا من القلة في العراق الذين جلسوا على كراسي لحلاقين (اكراد – تركمان – مسيحيين – شيعة – سنة – اكراد فيليين- اردنيين – سوريين - مصريين) واستمعت من خلال جلستي على الكرسي او من خلال الانتظار الى جميع اللهجات العراقية والكثير من العربية.
ينطبع في ذهني اول جلوس على كرسي الحلاق، كان عمري في وقتها لايسمح بملامسة جلده الاسود، وكان الحلاق يستعيض عن قصر قامتي بخشبة يضعها على مسندي الكرسي لارتفع الى مستوى مقصه، وقصه.
اذكر قسوة التجربة الاولى ومرارتها، وحتى الان لا اطيق الانتظار او الجلوس طويلا على كرسي الحلاق، احس بهذا القيد الخانق الذي يحيط برقبتي من خلال قطعة القماش التي تنسدل على صدري حتى ركبتي وتحمي ملابسي من الشعر المتساقط.
ما الذي يمكن فهمه من خلال هذه الرباعية للعنوان (كرسي – حلاق – حكي – خضوع)، في الاولى ينصرف الذهن الى استعمالات شتى للكرسي الا انها في حميمية الكثير منها لا نلتفت اليها او لانهتم بها، الا كرسي الحكم او السلطة، وهو ما يدير حركتنا ويضبط ايقاعنا الحياتي اليومي.
رغم الكثير مما قيل او سيقال عن كرسي الحكم او السلطة، الا انه حتى هذه اللحظة لم يكتسب لونا رمزيا دالا عليه. او اننا بعبارة اخرى لم نستطع ترميزه عبر اللون، كأن يكون كرسي السلطة قد اقترن باللون الاحمر او الاصفر او الاخضر او غير ذلك من الوان. وحتى في فنون الرسم والتشكيل لم يهتد الرسامون الى تحديد لون دال ورامز عليه.
الحلاق صفة من يتخذ الحلاقة مهنة له. وكانت تسمى سابقا (المزيّن) من الزينة. ولا أدري كيف او متى تحول فعل التزيين الى الحلاقة والحلق.
في كلمة (الحلاق – الحلاقة) يمكن ان نقرأ مستويات متعددة من المعاني حين نعيدها الى اصلها الثلاثي (حلق) فيمكننا قراءتها (حقل) وهو الارض المزروعة، او (حلّق) بتشديد اللام وهو ما ارتفع عن الارض وطار، و (لحق) أي جاء اثره وبعده، او (لقح) من التلقيح والالقاح، او (قحل) من الجدب والجفاف.
أليست مفارقة ان تكون كل هذه المعاني مضمرة في اصل كلمة (الحلاق) الثلاثية الاحرف؟
الحكي او الكلام، او هو السرد في التعبير النقدي الحديث. اكثر جملة انغرست في ذاكرتي هي (وسكتت شهرزاد عن الكلام المباح).
ثم فهمت، او بدأت افهم لماذا سكتت عن هذا المباح من كلامها. انها كانت تؤجل لحظة موتها واندثارها. فالكلام حياة والموتى لا يتكلمون. لا غرابة ان يكون كلامها المباح وهو يستمر بالانثيال من شفتيها في الليل، والليل سكون كما القبر، وكأنها بكلامها المتواصل حتى الفجر، تريد ان تشعر بانها حية وسط هذا السكون. لينتقل التذكير بالحياة عبر صياح الديكة، ويوم جديد به تحيا.
شهريار كل يوم وعلى كرسي حكمه يتكلم آمرا، زاجرا، ناهيا، وهو يعتقد ان الموت لا يقاربه، لهذا لم تحفل الليالي بمجلس حكمه او ما يدور من حكي فيه.
اهم اداة بيد الحلاق هي المقص. مهما تطورت ادوات الحلاقة فهو لا غنى عنه.
ووظيفة المقص هي قص الشعر وتقطيعه. ومن القص يمكن تلمس القصة والاقصوصة، وهي عبارة عن حكي وكلام وسرد.
كل فعل للحكي يرتبط باللسان، وهو اداة النطق. رغم ان هناك حكي وكلام اخر لا يحتاج الى اللسان بل هو اشارات ورموز تفيدنا اليد وتعابير الوجه وحركات الجسد في ايصال المعنى الى الاخر.
القطع او القص كفعل يقوم به المقص له علاقة بقطع او قص اللسان، كما في الدارج الشعبي المعنوي من أحاديثنا (گص لسانه) او (قطع لسانه) وهي عقوبة شديدة القسوة في تحققها المادي.
للقص معاني متعددة، منها ما تَمَّ قصُّهُ من شَعَر أو صوف أو نحوهما، ومنها قَصَّ أظافرَ المجرم : ردَعَه، وقَصَّ جناح فلان : أضعفه، وقصَّ ما بينهما : قطع الصِّلة بينهما، ومقصوص الجناح : ذليل، عاجز، قصير الباع. ، وقصّ عليه الرُّؤيا: أخبره بها- {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} ". ، وقصَّ أَثَرَ فلانٍ : راقبه، تتبّع أثَره {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ} ، وقَصَّهُ الْمَوْتُ : قَرُبَ مِنْهُ
هناك ايضا غير اللسان، من حواس الانسان لها علاقة بالكلام، انها حاسة السمع، والتي من خلالها نستطيع سماع الاصوات والكلمات التي تؤلف جملا، يصدق عليها (الحكي).
والسمع مصدر من مصادر المعرفة، مثله مثل البصر، ولاهمية السمع فقد تكرر لفظه ومشتقاته المتعلقة بالانسان في القران الكريم، -139- مرة منفرداً، في حين تكرر لفظ البصر-106- مرة منفرداً، وجمع بينهما في مواضع كثيرة أخرى، ويدل ذلك من ضمن دلالاته، أن السمع وسيلة أساسية في التعلم تفوق حاسة البصر من حيث الأهمية، ولأن حاسة السمع تستقبل الأصوات الصادرة من جميع الجهات في حين لا ترى العين إلا ما هو في حدود اتجاه العين.
في الظلام يأخذ الكلام طابعا اقوى، لهذا يكون الهمس بين اثنين مسموعا بقوة، يستفيد من ذلك المعتقلون في السجون، وهم يتبادلون الحديث الهامس فيما بينهم، وبالتالي تنشط حاسة السمع، وكأنهم يمارسون من خلال هذا الحكي المهموس، لونا من ألوان التحدي لسجانيهم.
يشتغل الحلاق على الرأس وشعره. يتضمن الرأس في بعض رمزياته الثقافية، السلطة والسلطان، ومن الرأس تأتي (الرئاسة)، والرأس يأمر ويحكم ويوجه (من الوجه). ويعيّن (من العين) ويسمع (من سماع الاذن).
في الكثير من التقاليد الحربية، كان يقطع رأس الخصم، تدليلا على النصر وقهر العدو، ومن هنا (رمزية الرأس المقطوع).
الشعر ايضا يستبطن على عدد من الرمزيات، فهو يرمز الى المودة والتوادّ، وهو في الاغلب يمثل بعض الخصال او بعض قوى الانسان: القدرة، الرجولة، كما في قصة (شمشون) الاسطورية، وهو من شخصيات العهد القديم، ومن أبطال اسرائيل القديمة.
مهما ارتفع كرسي الحلاق عن الارض، او قصرت قامة الحلاق، فان الزبون الجالس على الكرسي، يكون أدنى من الحلاق ومقصه، ويكون رأسه مطأطأ تتلاعب به يد الحلاق الماهرة، يمينا ويسارا.
في جميع الاحوال الاعتيادية، لا يقبل اي انسان ان يمسكه اخر من رأسه، حتى لو كان ممازحا له، لكنه مع الحلاق لا يستطيع حتى الاعتراض، فلا مجال لذلك، فالحلاق مستمر في حكيه وحكاويه، وفي استعمال مقصّه وقصّه، وما على الزبون الا الخضوع والاستسلام الكامل.
اضف تعليق