عندما نتابع أحوال واخبار الدول المتقدمة اقتصادياً، وما توفره للمواطن من رخاء ونعيم واستقرار في الوضع المعيشي، مع تطلعات مستمرة نحو النمو في مجالات شتّى، علينا الالتفات على الجذور وعوامل هذا النمو، وهل إنها تعود كلها الى الاجراءات الحكومية والخطط والنظريات الاقتصادية، وأن كل شيء جاء جاهزاً على طبق من ذهب أمام المواطن في كوريا الجنوبية أو الصين – مثلاً-؟.
صحيح؛ هنالك عوامل عديدة ذات دخل مباشر في نمو وتطور أي بلد، مثل العقول المبدعة واليد العاملة غير المكلفة والمواد الأولية، الى جانب التخطيط والبرمجة، بيد أن طريقة حياة الانسان هناك، هي الاخرى تعد من العوامل الرئيسية في النمو، لذا كان التوازن الدقيق بين الاستهلاك والانتاج، واحياناً تفضيل الانتاج على الاستهلاك في البلدان المصنفة بـ "النامية" مثل الهند والصين وكوريا الجنوبية، لحاجتها الى العملة الصعبة وافتقارها الى الثروة النفطية، وذلك من خلال فكرة الادخار وزجّ النقود في عجلة الانتاج.
وما نبحث عنه في خضم هذه التجربة الحضارية التي يشهدها العالم منذ عقود طويلة من الزمن، هو مفتاح الدخول الى هذه التجربة على أمل الخروج من الازمات الاقتصادية الخانقة التي تعيشها بلادنا ومنها العراق، حيث يتجه يوماً بعد آخر نحو الافلاس، بعد أن انتابه شعور مخيف بفقدان السيولة النقدية على خلفية انخفاض اسعار النفط، وأنه لن يكون ذلك البلد الثري الذي يتلاعب بالاموال كيفما شاء...! مع علمنا بأن المفترض خوض التجربة قبل هذا بفترة طويلة، ربما من الايام الاولى من ظهور النظام السياسي الجديد عام 2003، مع ذلك، ربما بالامكان انقاذ ما يمكن انقاذه.
الادخار: ثقافة
عندما يعرف الانسان في بلادنا أن مردوده المالي يأتيه كل بداية شهر، ويكون مجزياً – الى حد ما- لن يجد الحاجة الى الادخار او الاستثمار ولا حتى التفكير بالمستقبل، وهذا ما اعتادت عليه بالتحديد الدول الغنية بالنفط والفقيرة في التخطيط الاقتصادي. فقد جعلت هذا النفط والثروات المعدنية بمنزلة مصدر الرزق، فيما تركت للدول المتقدمة وشركاتها الكبرى، الاستثمار في الحقول النفطية وفي مشاريع انتاجية وخدمية عديدة، فبقي المواطن العراقي وغيره، عبارة عن مستهلك للسلع المصنعة في الخارج، مع حركة بسيطة للانتاج المحلي الذي يواجه دائماً صعوبات جمّة في منافسة المنتج الاجنبي.
وهذا يجرنا الى الحديث عن السياسات الاقتصادية الخاطئة للانظمة الحاكمة في بلادنا، وعدم تفكيرها في التنمية الاقتصادية، بل هي غضّت النظر عن جعل المواطن لديها يأكل من كدّ يده ويتجه نحو الانتاج والابداع، ومساعدته على زيادة دخله الخاص. فاذا نعرف السبب بالامكان معالجة المشكلة بسهولة، بنشر ثقافة الادخار بين ابناء المجتمع، من الصغير الى الكبير، لمواجهة أزمة السيولة المالية، والتقليل من شأن "الراتب الشهري" الذي يجري خلفه الناس. والمسألة – طبعاً- ليست بالسهلة، إذ هي بحاجة الى مراجعة شاملة لطريقة العيش والسلوك الفردي والتعامل مع الاشياء، فكل هذه وغيرها، تؤثر على طريقة التعامل مع المال.
من هنا؛ نجد في معظم البلاد الغربية والمتقدمة، الادخار بمثابة الثقافة الاجتماعية الدارجة، من طالب المدرسة والموظف والعامل، مروراً باصحاب المتاجر وحتى المشاهير وكبار رجال الاعمال. كل هؤلاء ينظرون الى المال الذي بحوزتهم، كما لو انه كائن حيّ يجب التعامل معه بلطف واحترام، فبدلاً من ان يكون مكدساً في الخزانات ومجمداً، يجعلونه ضمن عجلة العمل والحياة والانتاج.
وقد عرّف بعض أهل الشأن "الادخار" بانه: " الجزء من الدخل غير المخصص للاستهلاك و الذي يودع عادة في حسابات بنكية جارية أو يستخدم على المدى القصير. و الادخار هو أيضا حفظ السيولة لأغراض الاستخدام على المدى القصير، من قبيل مصاريف غير متوقعة، السفر، شراء الأثاث، وغيرها". ويميزون بينه وبين الاستثمار بانه "الجزء من الدخل المستثمر على المدى الطويل. و يتعلق عامة بالأصول التي يتم تقييم مداخيلها على المدى الطويل، مثل أملاك عقارية و أسهم و حصص الشركة، و الهدف من الاستثمار هو تنمية و زيادة قيمة الادخار لتحقيق أهداف على المدى الطويل، مثل التقاعد و تعليم الأطفال و شراء المسكن و غيرها".
لذا يفهم الانسان في هذه الدول بانه عندما يدخر امواله بهذه الطريقة، فانه يكون بامكانه التمتع بسيولة نقدية وقتما شاء، دون ان تفقد أمواله قيمتها. وفي نفس الوقت فانه يحقق العديد من اهدافه بهذا الادخار لمواجهة حالات الطوارئ في الحياة او حتى التفكير بالدخول في مشاريع استثمارية صغيرة او كبيرة في المستقبل.
والسؤال الجدير أمامنا؛ كيف ينجح الادخار؟
ربما يستغرب البعض – لاسيما في بلادنا- الدعوة الى استقطاع جزء من المرتب الشهري او ما يحصلون عليهم من العمل والتجارة، لغرض الادخار، لأن الشائع، توزيع المال على الاحتياجات الاساسية للبيت والأسرة وحتى الامور الشخصية، وما يتبقى يُدفع الى الادخار، وهي الطريقة الخاطئة التي يعمل الغربيون بعكسها تماماً، حيث ينصحون بأن تكون الاولوية للادخار باقتطاع نسبة معينة، حسب الظروف وطريقة العيش، والباقي هو الذي يكون مخصصاً للنفقات اليومية.
وهذا يفند التصور الشائع بأن الأثرياء يتجولون وينفقون اموالهم طوال الوقت، بينما الحقيقة، بعكس ذلك، فهم يفكرون قبل أي شيء بالادخار، ولذا نجدهم أثرياء دائماً. لنأخذ كلمة من وارين بوفيه، رجل الاعمال الاميركي وثالث أغنى رجل في العالم لعام 2014، يقول: "لا تدخر الباقي بعد الإنفاق، ولكن انفق الباقي بعد الادخار".
وربما نسمع الحكمة البليغة في هذا المجال من أكبر الشخصيات الاميركية، وهو بنيامين فرانكلين، أحد مؤسسي الولايات المتحدة، حيث يقول: "انتبه للنفقات الصغيرة، إن التسرب الصغير يغرق أكبر السفن".
الادخار المفيد يباركه الاسلام
من اجل ان يكون الادخار مفيداً للانسان الفرد والمجتمع، لابد من بلورة المفهوم حتى لا نصاب بداء "الاكتناز" في المال والابتعاد عن الاهداف السامية والبناءة، نعم؛ هنالك "التوفير" لفائدة محدودة، وهو ما تشجع عليه بعض دولنا، بهدف تنمية ثقافة الادخار، بينما مجرد تجميع المال وتجميده تلبية لرغبات نفسية خاصة ومؤقتة، فانه يلحق الضرر بالوضع الاقتصادي للمجتمع والدولة بشكل عام.
لذا نجد سماحة المرجع الديني الامام السيد محمد الشيرازي – قدس سره- في كتابه القيّم "الاقتصاد" يضع يده على هذه النقطة المفصلية موضحاً الفارق الكبير بين الاكتناز والادخار، ويبحث مدلول الآية الكريمة التي نهت عن الاكتناز، في ستة احتمالات، منها الاحتمال الخامس الذي يبين "أن المحرم الكنز عند الحاجة للطوارئ، مثل الحروب، حيث لا تمولها إلا الكنز، ومثل مااذا لم يكف الحقوق الواجبة، حيث أن الواجب إعطاء الاغنياء...".
ويذهب سماحته الى أن "ذات الكنز ليس بحرام"، على أن الدعوة بالدرجة الاولى الى الإنفاق في سبيل الله، كما انه يذهب الى أن "النصّ والاجماع والضرورة والسيرة على خلاف مع وجوب إنفاق كل الكنز". ويصل سماحته بعد بحث مستفيض حول مدلول الآية الكريمة في سورة "التوبة": {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله....}، حتى يصل الى نتيجة أن "الآية تمنع عن الكنز اذا كانت سبل الله معطلة، سواء كانت سبلاً خاصة كالفقراء والمرضى، ومن اليهم، او سبلاً عامة كمؤنة الجهاد وما أشبه...". ثم يخلص سماحته البحث في تساؤل عن انه "اذا جعله (الاكتناز) في المشاريع الانمائية، لنفع المسلمين لاجل رفع سطح الاقتصاد او اقرضه لسبيل الله او نحو ذلك، هل يصدق عليه انه كنزه؟ الظاهر لا".
وبالمحصلة؛ بلد مثل العراق، الذي يتمتع بموارد هائلة وفرص كبيرة للنمو، لن يكون من الصعب خوض تجربة الادخار، لاسيما مع تراجع السيولة النقدية وامكانية استفحال الازمة المالية، وهذه مهمة المؤسسات التجارية والانتاجية واصحاب الرساميل في تشجيع الناس على الادخار والاسهام في عملية نهضوية يكونوا هم أول المستفيدين في الحاضر والمستقبل، وربما مناسبة لاختبار صحة التعامل مع المال، حتى وإن ارتفعت اسعار النفط، فالاطمئنان على الاستقرار الاقتصادي والمعيشي وما يتفرع عنه من الامن الغذائي والوظيفي وغيره، لا يوفره – بالحقيقة- أموال النفط ، إنما القدرة على الانتاج وتحريك الاموال لخدمة الصالح العام.
اضف تعليق