يمكن القول بثقة عالية؛ أن التاريخ الحديث للشعوب الاسلامية، لم يشهد علاقة مستقيمة خالية من الشوائب والتعرجات، مثل علاقاتها بالمرجعية الدينية، فقد أتت هذه العلاقة بنتائج باهرة، عجزت عنها احزاب وتيارات وحكومات، مثل إجبار الاستعمار البريطاني في العراق على تغيير رأيه في الاستمرار بإدارة شؤون الحكم بنفسه (ثورة العشرين)، وإجباره في ايران على تغيير رأيه – ايضاً- في الاستمرار في باستنزاف ثروات وقدرات الشعب الايراني (ثورة التبغ). وفي وقت لاحق، إجبار تيارات فكرية وافدة من الخارج، على تغيير رأيها في التمادي بالتضليل وخداع الناس بالشعارات البراقة. وفي هذا المشوار واجهت التحديات والضغوطات والتهديدات، فكان مصيرها بين النفي، والقتل غيلة، او التشويه وغير ذلك. بما يبين العطاء اللامتناهي والمتفاني في سبيل قضايا الامة.
واستناداً الى الفهم الجماهيري للمرجعية الدينية ودورها الاجتماعي والسياسي ومكانتها الخاصة في القلوب، وهو ما نلاحظه مستمراً حتى اليوم، رغم المنغّصات والتداعيات الموجودة، فان الامل يبدو كبيراً في تعميق هذه العلاقة لتكون تفاعلية اكثر من ذي قبل، بما من شأنه مواكبة التطورات السريعة على الساحة السياسية، ومن ثم التأثير بنسبة أكبر على الحدث والقرار.
نحو جسور العلاقة مع الجماهير قبل النخبة
حتى نتوخى الدقّة، علينا المقارنة بين نموذجين من العلاقة مع الجماهير في عديد البلاد الاسلامية؛ نوع شهدته بعض البلاد التي نشطت فيها تيارات فكرية واحزاب سياسية، فكان "الحراك" يدور في فلك النخبة المثقفة والمتدينة – إن صحّ التعبير- فيما كان يتم تجاهل السواد الأعظم من الناس، وإن كان لهم دور فهو "السمع والطاعة"، وكانت النتيجة؛ ليس فقط تكريس الوجود الاجنبي سياسياً واقتصادياً وحتى ثقافياً، وإنما تمكين هذا الوجود من انتاج أنظمة حكم ترفع شعارات براقة بيد وتصافح الاجنبي بيد اخرى، واستمر الوضع لعقود طويلة من الزمن، حتى جاء موعد انتهاء الصلاحية، ونفضت يدها من حكام اصبحوا يترنحون للسقوط، بعد مسيرة طويلة من الفساد والطغيان والدماء.
بينما النموذج الثاني الذي تمثل بالمرجعية الدينية – الشيعية- فانها لم تتخذ واسطة بينها وبين الجماهير بتاتاً، فكان لها الانتصار المؤزر، ولعل من المفيد الاشارة الى التجربة الايرانية في ثورتها التي انتصرت على حكم الشاه، وهو ما أثار العديد من الباحثين في الشأن الايراني، في كيفية انقلاب الرأي لدى شريحة واسعة من الشعب الايراني، من الولاء المطلق، لمن كان يسمي نفسه "ملك ملوك ايران"، الى الولاء المطلق لمرجع دين يخرج من الحوزة العلمية؟ فكان الجواب سريعاً من وحي المعطيات على الارض، فقد جرت أعمال بناء علاقة مباشرة مع المجتمع، لاسيما الشرائح التي شهدت التجاوزات الشنيعة على هويتها الدينية ثم كرامتها، بعد تجرعها الفقر والأمية والتمييز. بينما نلاحظ الاحزاب السياسية العريقة والفاعلة في الساحة آنذاك، كانت تحوم في دائرة نخبوية مغلقة، مثل الحزب الشيوعي الايراني، وأشباهه، فكان مصيرها الغياب عن الساحة الى الابد، فيما تكافح تيارات اخرى للبقاء من خلال الوصول الى أكبر رقعة ممكنة من الساحة الجماهيرية.
إن جسور العلاقة هذه، يمكن ان تتجسد في فعاليات ومشاريع عدّة، لسنا بوارد الحديث عنها في هذا الحيّز المحدود، والمعروف أن جماهيرنا تؤوب الى المرجعية الدينية في مختلف شؤونها الاجتماعية والاقتصادية وايضاً السياسية، لاسباب عديدة يشير اليها سماحة المرجع الديني الامام السيد محمد الشيرازي – قدس سره- في بعض مؤلفاته، ومنها؛ التفاني من اجل الآخرين وعدم البحث عن المصالح الشخصية. وكلما ازدادت المشاكل تعقيداً، اشتدت الحاجة الى مراجع الدين و إضاءاتهم، فيما يتعلق بالتعليم والصحة والخدمات والاسرة والتجارة والقضاء وغيرها، وعلى اساس هذه العلاقة المميزة، تكون علاقة الجماهير بالنظام الحاكم، وبالمسؤول والوزير والزعيم السياسي، مهما كان اسمه وانتماؤه.
وعي الأزمة وحلولها
يعتقد البعض أن معرفة الحقائق وفهم ما يجري على الساحة، يتم فقط، من خلال وسائل الاعلام، وما تبثه من اخبار وتقارير وحوارات ومقالات وغير ذلك، لذا نجد ثمة تصور قديم لدى شريحة كبيرة من المجتمع بأنها تعرف كل شيء، لذا فهي تحلل وتنظّر وتصدر الاحكام على هذا وذاك، وما تلبث هذه الشريحة ومعها جماهير الشعب أن تفاجأ بتحولات كبيرة وصادمة، مثل حصول اختلاسات ضخمة من اشخاص غير متوقعين، او حصول انشقاقات كبيرة في صفوف الساسة واهل الحكم، وغير ذلك.
ومن اجل ذلك نرى أن الامام الشيرازي يحثّ دائماً على "دراسة السياسية" وليس فقط متابعتها، ويوصي في كتابه "ممارسة التغيير لانقاذ المسلمين"، "بضم دراسة السياسية الى جنب سائر الدراسات الاخرى في المناهج الثقافية بالنسبة الى طلاب العلم سواء كانوا دينيين أو زمنيين"، بمعنى أن تكون السياسة، مادة ثابتة للدراسة في الحوزات العلمية وايضاً في الجامعات. وليس هذا وحسب، بل ودراسة الاقتصاد والاجتماع بالدرجة الاولى ايضاً.
إن نشر الوعي والمعرفة بهذه الامور الحياتية تفتح بصائر الناس وتمكنهم من اتخاذ الموقف الصائب والحؤول دون وقوعهم في مآزق مع الحكومات والانظمة السياسية. وفي الوقت نفسه يكون عاملاً مساعداً على تقوية هذه العلاقة بمزيد من التفاعلية والتواصل.
ولعل أروع ما جاء في كتاب "السبيل الى إنهاض المسلمين" وفي الصفحة الاخيرة، بان "من خصائص الاسلام أن معرفة بدائية بجزئه الأهم يعطي للمسلم الوعي الكامل بإدراك سائر أجزائه. إن قول المسلم الشهادتين واعتقاده أن القرآن الكريم والسنة والعترة والعلماء هم المحور، يعطي المسلمين وعياً كافياً، لا في جانب العبادات والمعاملات فحسب، بل في الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والعسكرية....".
إن ما يجري اليوم في الامة، من تسليم زمام الامور بأيدي غير أمينة على العقيدة والاخلاق، حيث يتم التعامل مع البنوك الربوية بكل روتينية، ويتم التسليم لأوامر القضاء حتى وإن كان بعضها منافياً للشرع والعقل، والقبول بالتسويات والصفقات السياسية حتى وإن خرجت من دهاليز المخابرات ومن بين مصالح اقليمية ودولية بشعة، كل ذلك وغيره كثير، يمكن تقويمه وقلب المعادلة تماماً لتكون محور العلاقة بين الجماهير ومرجعيتها الدينية، وذلك بالعودة الى تلك العلاقة التفاعلية والصادقة التي كانت تنعمّ بها الامة في تجربتها الماضية ولو بشكل تدريجي يفتح آفاق الأمل بمستقبل واعد.
اضف تعليق