حالتان متناقضتان تماما، موجودتان في التركيب التكويني للإنسان، هما أولا اليأس والخمول والانطفاء التام، والاستسلام للواقع وضغوطه المختلفة، وثانيا إعلان الضد بعنف وإشعال فتيل الاحتجاج المبالغ به، أو الاحتجاج غير المنضبط الذي قد يؤدي الى حالة حادة ومتأججة من العنف، وهاتان الحالتان (اليأس/ التهور)، تقفان على طرفي نقيض، وكلاهما لا يخدم الانسان ولا يقوده الى الهدف الذي يسعى إليه، وهو يتمثل بالتغيير نحو الأفضل.
هذه القضية تعد من العيوب التي ترافق شخصية الانسان، ولكن هناك مشكلة أكبر تنتج عنها، فهي من الممكن أن تنتقل من الفردي الى الجمعي، فالانسان المصاب بها يمكن أن يؤثر بغيره وهكذا قد تصبح سلوكا للجماعة، وربما للمجتمع ككل، ومن المرجّح أن يصبح المجتمع بعيدا عن الاعتدال، علما أن المطلوب لمعالجة هذه الظاهرة نشر الوسطية في التفكير والسلوك، فهذا الأمر يمثل حالة توازن بين اليأس التام والتهور العنيف، وحينما يغيب السلوك الوسطي سوف يعيش المجتمع حالة من حالتين، أما الخضوع المطلق للحكومة بكل قراراتها حتى لو كانت جائرة وظالمة، أو ينحو الى العنف المطلق في سلوكه، وبهذا فإن حالة الاستقرار لن تتحقق، ويصبح بناء الدولة أمرا عسيرا إن لم يكن مستحيلا، بسبب حالة الفوضى التي يخلقها التهور.
من هنا مطلوب وضع الاجراءات والخطوات التي تحد من انتشار التهور في الفكر والسلوك، واعتماد الاعتدال، فهو السبيل الى تحقيق نوع من السلم الأهلي المهم للمجتمع، لسبب واضح أن المجتمع الوسطي هو صانع الاستقرار، وهو المحفّز على الابداع والتجدد، وهو الطريق الى بناء الدولة المستقرة القوية المتقدمة، وهذه مهمة تشاركية تقع مسؤوليتها الاولى على الدولة ومن ثم المنظمات الاهلية والنخب كافة.
إن المشكلة ستكون أكثر تعقيدا عندما يكون هناك تلكّؤ في المعالجات، فعندما يصبح المجتمع خانعا أو عنيفا بصورة مطلقة، هذا يؤكد فشل الدولة وتراجع المؤسسات المعنية ببناء الإنسان، وعدم قيامها بمهامها، فضلا عن ضعفها وافتقارها للقدرة على البناء المجتمعي السليم، بالاضافة الى الاسباب التي يقف وراءها المجتمع ذاته، لذلك من واجب النخب والمنظمات والجهات المعنية نشر الفكر الوسطي، ومحاصرة أساليب التهور الفكري بكل أنواعها.
اليأس والتهوّر الفكري
لا يصح الانتظار حتى الوصول الى حالة الانفجار، أي أن المجتمع ينبغي أن يتحرك لمعالجة الامور الرديئة بصورة متدرجة، فالصمت على الخطأ يؤجل أسباب العنف، ويتركها تتركم فوق بعضها، حتى يصل الأمر الى درجة لم يعد الانسان قادرا على تحمّل الظلم، فتنطلق شرارة الاحتجاج العنيف، وهنا سوف يخسر الجميع، الحاكم والمحكوم، ولكن ثمة سؤال يطرح نفسه هنا، متى يكون المجتمع خانعا بصورة مطلقة، أو عنيفا الى حد التطرف، وما هي الاسباب التي تقف وراء ركون المجتمع الى إحدى هاتين الحالتين، وهل هناك سبل وخطوات معينة تتم من خلالها معالجة هذا التطرف المجتمعي الحاد؟ بالطبع هذه التساؤلات مشروعة وواردة تماما، كما أن الاجابة الصحيحة سوف تضع الامور في نصابها الصحيح.
إن القسوة السياسية وغياب العدالة الاجتماعية واهمال حالات الفقر والتردد في معالجة الجهل، واهمال الجانب الصحي والقدرة الشرئية للفرد، كل هذه أمور تسهم في تعقيد الأوضاع، فلا شك أن هناك اسبابا ودوافع هي التي تجعل المجتمع بعيدا عن الوسطية، ومنحرفا باتجاه بوصلة الخنوع او العنف، أما الخنوع فهو نوع من السلوك السلبي، قد يلجأ اليه المجتمع في ظل مصادرة الرأي، واستخدام النظام السياسي الحاكم القوة المفرطة، في مقارعة الرأي والفكر والكلمة التي لا تتفق مع ثقافة ومآرب النظام السياسي الحاكم.
ولعل المشكلة المتكررة تكمن في خوف النظام السياسي القمعي من وعي المجتمع، لذا يسعى ذلك النظام الى محاصرة الناس وافكارهم وآرائهم المختلفة، وعندما يصادر النظام السياسي حرية المجتمع، فلا شك أنه يسعى من خلال ذلك الى حماية عرشه، ومكاسبه المادية المتمثلة بالنفوذ والجاه والقوة، والاستحواذ على المناصب والاموال، ونشر الفساد في مفاصل الدولة كلها، حتى يسهل على رموز السلطة سرقة الشعب ومصادرة حقوقه وحرياته، وتكديس اموالهم ومضاعفة ارصداهم في البنوك المحلية والخارجية في حين يتور الفقراء جوعا وحرمنا.
وقد يطول صمت المجتمع ازاء وحشية الحكومة، وقد يصل الى درجة اليأس اذ يمكن أن يحدث كل هذا يحدث بقوة القمع، وهذه الظاهرة تحدث في ظل الانظمة الدكتاتورية، وقد عايشها المجتمع العراقي وعانى منها طويلا، وهذا يفسر الآراء التي ذهبت الى ان المجتمع، كان يميل الى الخنوع في مرحلة من مراحل حياته، عندما كان النظام السياسي لا يتورع عن استخدام العنف والقتل والاقصاء وما شابه، ولكن لم يصمت المجتمع بصورة تامة، فهناك انتفاضات حدثت بعد الصمت وان كانت وحشية القمع عالية جدا.
إطفاء جذوة التطرف
ان مواجهة الحكومة الغاشمة حق مكفول، ولكن نحن نتحدث عن فكر وسلوك مجتمعي يبتعد عن الاعتدال ويميل الى العنف، وهذا يضر بمصالح الفرد والمجتمع والدول، فحالة الخنوع تضر كثيرا في بناء الدولة نفسها، عندما يصبح المجتمع عاجزا عن التأثير في مسار الانشطة المختلفة للدولة، لاسيما عندما تفشل السلطة التنفيذية في ادارة الملفات التي تعنى بشؤون المواطنين، مثل خدمات البلدية والصحة والتعليم، ومراعاة الجانب الترفيهي.
واحيانا تحتاج الدولة الى ضغط شعبي يعيد الامور الى الجادة الصواب، فاذا كان المجتمع عاجزا عن التعامل بحزم مع الحكومة، من خلال وسائل الضغط المتعارف عليها، فإن تراجع الدولة والمجتمع سوف يستمر، الى درجة قد تصاب فيها الدولة وكيانها المجتمعي بالضعف والتخلف، أي أن الأمر سوف ينعكس على مؤسسات الدولة ويصيبها بالعجز، وهذا سوف يصيب النظام السياسي بالتراجع ومن ثم مواجهة السقوط الحتمي.
لذلك يرى الخبراء السياسيون أن المجتمع اذا لجأ الى العنف والتهور، واستخدم القوة في مقارعة السلطة، فإن هذا السلوك يشكل فشلا آخر للدولة والمجتمع ايضا، لان الصحيح لا يتمثل باللجوء الى العنف المطلق، ولا بالخنوع المطلق، انما المطلوب في هذا المجال، تعضيد السلوك الوسطي القادر على تحقيق التوازن بين الحالتين، لكي تتم عملية بناء الدولة بالصورة السليمة، وهذا لا يمكن أن يتم من دون فكر وسطي، يساعد على البناء السليم لمؤسسات الدولة المدنية.
لذلك ينبغي أن يكون هناك سعي مشترك نحو فتح آفاق للحلول المناسبة، لكي يتحقق نوع من التوازن، والابتعاد عن التطرف والتهور والفوضى، من هنا ينبغي أن تقوم الحكومة بدورها لدعم الاستقرار، من خلال الاسهام بقوة ومنهجية في صناعة المجتمع المدني الوسطي، وهي قادرة على التعامل مع هذا الجانب الحساس بنجاح، فيما لو تم التخطيط له بفاعلية وتخصص، وتم تنفيذه بصورة دقيقة، بمعنى لابد أن تتحرك الحكومة وفق خطوات عملية مدروسة، وموضوعة من لدن خبراء ولجان متخصصة، لكي تساعد على وأد التهور في الفكر والسلوك معا.
ومن ثم يكون هناك واضح يتم تحقيقه وفق تشارك حكومي مدني يسهم في المجتمع أيضا، من خلال النخب التي تمثله، فمن شأن مثل هذه الاجراءات أن تساعد بصورة حقيقية على خلق الوسطية المطلوبة في السلوك المجتمعي عموما، بطبيعة الحال هناك جملة من الخطوات الاجرائية التي ينبغي أن تقوم بها الدولة، ومؤسساتها المعنية، في تشجيع الوسطية بالفكر والسلوك معا، لمنع حالات التهور أو الانطفاء والاستكانة، فكلاهما لا يخدم الفرد ولا المجتمع ولا الدولة، إنما ما يخدم الجميع هو الاعتدال الفكري السلوكي.
اضف تعليق