تتحدث المصادر التاريخية عن العمالة الخارجية في مدينة كربلاء المقدسة بأنها تعود الى بدايات القرن التاسع عشر، عندما بدأت تتشكل معالم المدينة المقدسة من الناحية العمرانية والحضرية. ومن الحقائق المعروفة؛ أن المدينة إنما شيّدت على أيدي الموالين والمحبين للإمام الحسين وأهل البيت، عليهم السلام، من خارج العراق بالدرجة الاولى، وتحديداً من بلاد ايران والهند، بما يؤكد حقيقة الدوافع المعنوية قبل المادية في مسيرة بناء وتطور المدينة من نواحي عديدة.
وبالنظر الى مكانة الامام الحسين، عليه السلام، في قلوب الشيعة ومنزلته الدينية الرفيعة، كان من الضروري بمكان وجود أماكن لاستقبال الزائرين من شتى أنحاء العالم، وفي مناسبات عديدة في السنة، حيث الزيارات المندوبة والمؤكدة الى جانب زيارة ليلة الجمعة، وتوفير الامرين المهمين بالدرجة الاولى؛ المسكن والمطعم. فكانت البداية في تشييد "الخانات" والحسينيات لاستضافة الزائرين، الامر مهّد الارضية لتطوير الجانب العمراني، وتوسيع المباني والمساكن حول المرقدين الشريفين، ثم ظهرت الاسواق التجارية ومحلات خاصة لاستيراد سلع معينة مثل التوابل والتبغ والحبوب وغيرها. كما ظهرت الورش الصناعية لتكوّن حركة انتاجية باهرة في المدينة المقدسة. وبالنتيجة، تظافرت عوامل؛ الزيارة مع الموقع الجغرافي والتنوع الاجتماعي، لتحول كربلاء المقدسة الى مدينة تجارية وحيوية ذات شأن في العراق، ولدى الشيعة في العالم، وخلقت قاعدة عريضة للعمالة بمختلف المهن والاختصاصات.
وهم البطالة في الداخل والفرص المجانية للخارج
بالرغم من الاسقاطات السياسية والامنية على مجمل الوضع الاقتصادي خلال العقود الماضية، إلا أن كربلاء المقدسة بقيت متميزة بين مدن العراق في الإبقاء على حيويتها التجارية واستمرار توفر فرص العمل فيها، بل انها تحولت خلال الحرب العراقية – الايرانية، الى ملجأ آمن للعوائل القادمة من المدن المتضررة بشكل مباشر بنيران الحرب، وهذا ما نلاحظه يتكرر في مرحلة لاحقة بفارق الظروف السياسية والاجتماعية، فقد تحولت الى ملجأ آمن للعوائل المستهدفة من الجماعات الارهابية والتكفيرية في فترة ما بعد الاطاحة بنظام صدام.
وبالرغم من الارقام المرتفعة لنسب البطالة في العراق خلال السنوات الماضية، والتي بلغت 25بالمئة، فان الملاحظ جداً عدم تأثر كربلاء المقدسة بهذه النسبة قياساً بسائر المدن العراقية، بدليل توافد اعداد كبيرة من سكان المدن الاخرى لمزاولة اعمال ومهن مختلفة في هذه المدينة، وهذا ما نلاحظه مشهوداً جداً خلال الزيارات المليونية والمناسبات الدينية التي تشهد توافد الزائرين باعداد غفيرة.
هذا الواقع خلق أجواء تنافسية شديدة بين أهل المدينة وشبابها وبين الوافدين من داخل وخارج العراق، فكانت الغلبة للوافدين، والسبب في ذلك بكل بساطة؛ القبول بالأجر القليل، مقابل الحصول على فرصة العمل الكبيرة القابلة للتوسع والتطور. وخير مثال على ذلك؛ النجاح الذي لاقاه اصحاب المحال التجارية مع تجربة العمالة الآسيوية، علماً أن اعمال هؤلاء، لا تتجاوز الخدماتية، بيد أنه حتى هذا القطاع كان يشكو من أماكن شاغرة، في وقت يستمر الحديث عن البطالة وعدم توفر فرص عمل.
فرصة التطوير والتكامل بين الداخل والخارج
إن الحديث عن حلول جذرية للبطالة بحاجة الى بحث مستفيض في العوامل والخيارات المطروحة، منها الاجراءات الحكومية، على صعيد سنّ قوانين الاستثمار وفرص العمل، واعتماد اقتصاد السوق والخصخصة وغيرها، لسنا بوارد الخوض فيها، بيد أن المهم في هذا الاطار تفهّم سكان كربلاء المقدسة، حقيقة واحدة؛ هي أنها لن تبتلى بأزمة البطالة بالشكل الذي تعاني منها سائر مدن العراق، مما يدعو المعنيين الى تحفيز القدرات والكفاءات العلمية منها والخبروية، لخلق المزيد من فرص العمل، تتكامل فيها العقول والخبرات وايضاً الأيدي العاملة من داخل المدينة وخارجها.
وفي الوقت الحاضر يمكن الاشارة الى قطاعات حيوية في الساحة الاقتصادية، بيد أنها غير مفعلة بالشكل المطلوب، مثل النقل والسياحة والفندقة والبناء والصناعات التبديلية وغيرها، ومن الناحية الاخلاقية، فان الأولوية يفترض ان تكون لأهل المدينة وكوادرها وعمالها، فـ "الأقربون أولى بالمعروف" كما يُقال، ولهذا فوائد كبيرة على المدى القريب والبعيد، أهمها الإبقاء على هوية المدينة التاريخية والثقافية والحؤول دون تمدد المشاريع التجارية الاجنبية على حساب هوية المدينة وطابعها الديني والحضاري، الى جانب الإبقاء على الطابع المنفتح لكربلاء المقدسة على العالم بحيث تؤثر ولا تتأثر.
وما نستخصله من الواقع الراهن، فان كربلاء المقدسة تشهد خسائر كبيرة؛ مادية ومعنوية، فهي تستقبل الملايين من الزائرين الى جانب الآلاف من الوافدين الباحثين عن فرصة عمل، فيما هي من الناحية العمرانية والخدماتية على حالها منذ اكثر من عقد من الزمن، هذا من الناحية المادية، أما المعنوية، فان المدينة المقدسة المعروفة بين مدن العراق وعلى صعيد العالم، بانها الاكثر انتاجاً للعقول والكفاءات العلمية والمهارات الفنية، مع ذلك، نجدها بحاجة الى الاطعمة والاشربة المستوردة من الخارج، وقد وصل الامر الى اللافتات الحسينية وبعض المستلزمات الخاصة بإحياء ذكرى استشهاد الامام الحسين، عليه السلام، فنراها من صنع الصين...! وهكذا بالنسبة لسلع ومواد بسيطة تدخل في حياتنا اليومية.
من هنا؛ تبدو الحاجة ملحّة الى أن تظهر كربلاء المقدسة أمام العالم، ليس فقط كواجهة دينية و ثقافية، وإنما نموذجاً يحتذى به في الدول الاسلامية والعالم ايضاً، للنشاط التجاري والاقتصادي المنفتح والمثمر، نظراً للحقيقة الماثلة امام الجميع بحظوة هذه المدينة على خصائص غير متوفرة في أي مدينة اخرى بالعالم.
اضف تعليق