التخطيط والبرمجة، من أولى اهتمامات البلدان التي تعيش اوضاعاً طبيعية، بغية تحقيق الافضل في مزيد من الانجازات والمكاسب على حاضرها ومستقبلها، فما بالنا بدول تعيش أوضاعاً غير مستقرة سياسياً واقتصادياً، وتجد مصيرها ومستقبلها في مهب الريح، كم تكون أهمية التخطيط الاستراتيجي للنهوض بواقع البلاد لاسيما على صعيد الاقتصاد الذي يعد عصب الحياة، كما أتفق على هذا المبدأ العديد من العلماء والباحثين.
وتزداد الحاجة الى التخطيط الاستراتيجي في دول تعاني من أزمات اقتصادية حادّة ناشئة من حروب كارثية مدمرة، كما حصل في اوربا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث نهضت اقتصاديات هذه الدول؛ الشرقية بمبادئها الاشتراكية، والغربية بمبادئها الرأسمالية، وفق خطة استراتيجية محكمة، تمكنت من تجاوز مرحلة الحرب، وبناء اقتصاديات منتجة وناجحة الى حدٍ كبيرة. وكذلك نلاحظ تجربة كوريا الجنوبية واليابان.
بيد أن المهم في أمر هذه التجارب، الوقوف عند مرحلتين: الاولى: توفر الرؤية الواضحة وتحديد الاهداف والرسالة والقيم التي تقوم على اساسها مشروع النهضة، فهو يعد من عوامل نجاح المشاريع التنموية، سواءً في طوره النظري او عندما تكون في التطبيق العملي، وهو ما يسمى بـ "الإطار الاستراتيجي العام". أما المرحلة الثانية: فهى لتحليل الواقع الراهن، على الصعيد الداخلي والخارجي، فعلى الصعيد الداخلي يتم تقييم نقاط القوة ونقاط الضعف، وعلى الصعيد الخارجي، يتم تقييم حجم التحديات والتهديدات والفرص المتاحة.
شمولية التخطيط الاستراتيجي
الى جانب الحديث عن أهمية التخطيط الاستراتيجي في مشاريع التنمية والتطوير، يكون الالتفات الى مجمل الاوضاع المتأزمة في البلاد، أمراً منطقياً، ولسبب بسيط واضح؛ هو تجنب السقوط في وحل الفشل عندما يتم التركيز على جانب واحد، بحجة تكثيف الجهود والحصول على نتائج أكبر، وهذا ما جربته دول عديدة في العالم بما تُعرف بـ "النامية"، فبعضها ركز على الجانب العسكري، والبعض الآخر توجه الى التخطيط الاقتصادي وإعداد البرامج الخمسية وغيرها من "شعارات النهوض"، بيد أنها لم تغضّ الطرف عن طموحاتها العسكرية، وربما تفاجئ العالم بوجود تكنولوجيا متطورة في هذا المجال، والدافع في ذلك، نفس ما ذكرناه، من وجود رؤية وإيمان وتبني لقضية خاصة، تجعل كل شيء لخدمة هذا الطموح، مع قطع النظر عن خطأ أو صحة هذا النهج.
هكذا دول وبالرغم من توفرها على فرص نهضوية كبيرة مثل الاراضي الخصبة الصالحة للزراعة والمياه العذبة والمعادن وفي مقدمتها النفط والغاز، وايضاً القدرات الانسانية المنتجة وحتى الموقع "الجيوسياسي"، إلا ان المشكلة المنهجية تبقى في عدم شمولية جميع جوانب الحياة في عملية التخطيط الاستراتيجي حتى تكون النهضة شاملة وحقيقية، بسبب التداخل الواضح بين الاقتصاد والاجتماع والسياسة والامن والقضاء وحتى الثقافة، وهذه الحقيقة أكدها باحثون في مجال التخطيط الاستراتيجي، ولعل نماذج التخطيط الناجح الذي تمخض عن التقدم والاستقرار في عديد بلاد الغرب وبعض البلاد النامية مثل الصين والهند وكوريا الجنوبية،تكون مثالاً بسيطاً على ما نذهب اليه، كما أكد هذه الحقيقة سماحة المرجع الديني الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- في عديد مؤلفاته عن الاقتصاد والتنمية ومشاريع النهضة الشاملة، ففي كتابه "نحو يقظة اسلامية" يرى "أن الحياة في العالم الحاضر، لا يمكن ان تبقى فضلاً عن ان تتقدم، إلا بالتخطيط لكافة أطراف الحياة..."، بل ويرى أن مراكز التخطيط والبرمجة يجب ان تكون في جميع المرافق الحيوية في الدولة، مثل الجيش والامن والصحة والاعلام فضلاً عن الاقتصاد، بل إن التخطيط في رؤية الامام الشيرازي، تمثل جزءاً من المنظومة الثقافية للشعوب الناجحة، عندما تكون هنالك مراكز للتخطيط في لدى المؤسسات التجارية والمصانع وقطاع السياحة والتعليم و البلدية وغيرها. والهدف الاساس من كل ذلك؛ "تحقيق اكبر قدر ممكن من النفع ودفع الضرر، ويكون شأن هذه المنظمات التخطيط الدقيق ثم التنفيذ الحازم".
هناك خطط خمسية وبرامج تنموية جربتها دول عديدة خلال العقود الماضية، فهي حققت نجاحات في جانب شهد التركيز والحظوة في التخطيط الإنفاق والتنفيذ وغيرها من عوامل النجاح، بيد أن هذا كان على حساب جوانب عديدة أخرى، وأبرز الامثلة التي لا نجدنا بحاجة الى ذكر اسماء دول لوحدة الهمّ الاقتصادي، في التنمية التي تنتهي الى التصدير واستحصال العملة الصعبة، وقد جرت بحوث وأعمال تخطيط مستفيضة على القدرة الانتاجية وعوامل النجاح وتحديد نقاط الضعف ومعالجتها للحصول على افضل النتائج في تطوير قطاع الانتاج الصالح للتصدير، سواءً في مجال المواد الغذائية او الانشائية او السلع الاستهلاكية وحتى الخدمات وغيرها، كلها كانت عبارة عن ماكنة ضخمة همّها انتاج العملة الصعبة بكل الطرق الممكنة، ومن غير المهم، ما اذا تسبب ذلك في بقاء ذلك المجتمع في وحل الفقر والبطالة، أو يراوح في مستوى علمي ضحل مع تهديد مستمر بمعدلات التضخم وغلاء المعيشة وفوارق طبقية، فهنالك عمل وانتاج وتصدير ومرود مالي لا بأس به، بيد أنه لا يصبّ في بنية الاقتصاد الوطني ولا يخدم حاضر المواطن ومستقبله، إنما يخدم طبقة من الاثرياء و اصحاب الرساميل من المقربين الى القصور الرئاسية او من بيدهم الحل والعقد.
خطورة التغافل عن أهمية الاقتصاد
عندما نلاحظ غياب التخطيط الاقتصادي الشامل والحقيقي، يجب أن نلتفت الى المتبنيات الموجودة لدى القائمين على مشروع النهضة في المسارين اللذين شدتهما الشعوب الاسلامية؛ المسار النضالي في طريق مقارعة الانظمة الديكتاتورية والظالمة، وفي المسار التنموي في ظل الانظمة الجديدة التي نشأت على انقاض تلكم الانظمة البائدة. ولاسباب عديدة لسنا بوارد الخوض فيها، وجدنا في أمثلة عديدة، التركيز على السياسة و الامن القومي، وما ينضم في دائرتهما من تعبئة وتثقيف وتسييس وخلق للرأي العام، فهذه الجوانب تشملها علميات تخطيط مستفيضة وإعداد لبرامج مفصلة تزج بالشعوب في أتونها، بينما نلاحظ الاقتصاد، بمرافقها الانتاجية والبحثية والمالية، فانها بعيدة إلا عن الصفوة المقربة من النظام الحاكم أو الطبقة الثرية.
هذا النهج هو الذي يزرع بذور الازمات والمشاكل في الاراضي التي تقبع تحتها الخيرات العظيمة، فنجد البطالة والتضخم وسلسلة مترابطة من الازمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بينما علماؤنا يؤكدون أن المسلك الحضاري يقتضي التخطيط الاقتصادي الاستراتيجي الذي يمتد على مساحة واسعة من ابناء المجتمع، بحيث يكون لكل فرد نصيب من حركة العجلة الاقتصادية والانتاجية، بما يكفل الفائدة للجميع ويحقق نهضة حقيقية تمنح القوة والمنعة لأي شعب طموح للرقي والتقدم.
اضف تعليق