q

أي نهضة لشعب أو لأمة في العالم لابد لها من أسس ومقومات تضعها على الطريق الصحيح فتثمر عن نتائج تتطابق والطموحات، وطالما شهدت بلاد اسلامية خلال القرن الماضي، تجارب نهضوية، منها؛ السياسية والاقتصادية والثقافية. وكان التفاعل ثم التضحيات والجهود الكبيرة، بيد أن النتائج لم تكن مطابقة في احيان كثيرة، مع الطموحات والاهداف.

لذا عندما نجد المرجع الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – طاب ثراه- يعكف طيلة سنوات من عطائه الفكري والثقافي على بلورة مشروع النهضة في الامة، فانه يحرص على المنطلقات والبدايات، كما يفكر بالنتائج، ويؤكد في عديد مؤلفاته التي ضمت بحوثاً مستفيضة عن النهضة وميادينها، وشروطها وقيمها التي إن وجدت، فانها في طريق النجاح، ومن هذه القيم؛ نشر الوعي السياسي في الامة، ليكون العين والأذن للأمة تكسبها المعرفة الشاملة بما يحيط بها، كون السياسة تحظى بمدخلية في مجالات عديدة، مثل الاقتصاد والاجتماع والقانون وحتى الثقافة والفكر، لذا نجد حرص المرجع الراحل على تعميم الثقافة السياسية لأنجاح عملية التوعية، وعدّ الوعي السياسي، من الخطوات الأساس في مشروع أي نهضة تتبناها الامة.

منهج الوعي

استفادت احزاب سياسية عديدة في بلادنا من عملية التوعية السياسية لاهدافها وما تريد تحقيقه، سواءً في مرحلة النضال السلبي ضد الانظمة الحاكمة، او النضال الايجابي وخلال مشاركتها في الحكم، فكسبت الجماهير وعبئت النفوس، بل حتى حصلت على افراد مضحين بانفسهم من اجل قضيتهم التي يرونها عادلة، بغض النظر عن المنطلقات، وهذا ما لمسناه في الشعب الكردي الذي ضحى من اجل اهدافه القومية، والشعب الأرمني الذي ضحى ايضاً من اجل أهدافه الطائفية، هذه التوعية تحولت الى "تسييس" عند هذه الشعوب فغلبت السياسة على الوعي، فبدلاً من أن يكون الشعب "مدجَناً" من قبل الحاكم، اصبح مسيساً من قبل المعارضين لهذا الحاكم.

من اجل ذلك، نرى أن هذا النمط من السياسة، تشمل جميع شرائح المجتمع، من الطفل الصغير مروراً بالمرأة وحتى الشيخ الكبير، بل حتى الانسان الأمي الذي لا يحسن القراءة والكتابة، لان الاولوية التي ارتضوها لأنفسهم؛ طموحات الحزب او التيار قبل طموحاتهم. ومن نافلة القول في هذا السياق، أني صادفت ذات مرة خلال تجوالي في مناطق كردستان العراق في بدايات التسعينات، رجل كبير في السنّ يتحدث بكل ثقة عن "الأمن الكردي"، فطلب منّي إظهار بطاقتي، فعرضتها له، فكانت المفاجأة أنه لا يحسن القراءة ولا الكتابة! علماً أن هذا كان في فترة انتشار الأمية آنذاك.

من هنا؛ فان المرجع الشيرازي الراحل يحدد منهج الوعي السياسي، ويصفه بأنه عبارة عن "رشد فكري" ينطلق من أسس رصينة تهب الانسان الوعي واليقظة والإلمام بكل تفاصيل الامور، ويؤكد أن الوعي عندما يكون "إسلاميا"، فمن شأنه ان يعطي القوة الهائلة لفعل المستحيلات - في نظر البعض طبعاً- ويشير اليها سماحته في "السبيل الى إنهاض المسلمين"، بإزالة الحدود الجغرافية المصطنعة وكل الحواجز النفسية من لغات وفوارق قومية وعرقية، على طريق تكوين الدولة الاسلامية الواحدة ذات المليار ونصف المليار مسلم.

ويضع سماحته – طاب ثراه- النقاط على الحروف عندما يضمن مشروع التوعية هذه، بـ "المعارف الإلهية"، وهي المنظومة المعرفية التي لا تترك صغيرة ولا كبيرة إلا وتضيئها امام الانسان، بدءاً من نفسه التي بين جنبيه، مروراً بالحياة التي يعيشها، وحتى ما يتعلق بالكون والوجود وعالم الآخرة. فهذه هي المعارف الحقيقية التي لا تعرف التناقض والتراجع، كما شأن المعارف الاخرى التي نلاحظ تراجع اصحابها عن بعض فقراتها او تثبت الايام أنها لا تؤدي إلا الى الضلال والدوران في حلقة فكرية مفرغة.

على هذا الاساس يكون الوعي السياسي الرصين الذي يعطي القدرة لصاحبه على التمييز الدقيق بين الشخوص والافكار ثم يتخذ الموقف الصحيح الذي لا يندم عليه، وهذا مصداق الحديث المروي عن الامام الصادق، عليه السلام، "العارف بأمور زمانه لا تهجم عليه اللوابس". وهذه هي المعرفة التي يريدها الامام الصادق، ويقصدها ايضاً المرجع الراحل، وهي التي تؤسس لنهضة حقيقية تثمر عن تطورات على الاصعدة كافة؛ الاجتماعية منها والاقتصادية فضلاً عن السياسية. واذا نريد مثالاً واحداً فقط، عن تعثر الشعوب في مشروعها النهضوي خلال السنوات الماضية، يكفي الاشارة الى التجربة الديمقراطية التي ما تزال تخوضها شعوب عدّة، ومنها الشعب العراقي، من دون وعي سياسي حقيقي ومتكامل.

التسطيح، العدو اللدود

لا يجرؤ أحد على تبني الغفلة والتضليل في مشروعه الثقافي، مهما كان وضوح خطأ السياسات المتبعة وعقم المنهج الذي يتبعه، فهو لا يلبث يدعي اليقظة والوعي وأنه من المساهمين في هذا الطريق، بيد أنه يمارس دور بعض المشبوهين في مرحلة التحقيق الجنائي، حيث أنه يدّعي الصدق وعدم الكذب، بيد أنه يراوغ بإخفاء حقيقة وإظهار أخرى حسب المصلحة التي يراها. وهذا ما نلاحظه من خلال توظيف بعض الانظمة السياسية او الحكومات لوسائل الاعلام، فنرى تسليط الضوء على أمور ومسائل ثانوية وغير ذات صلة بمصير المجتمع ومستقبله. نعم؛ إنها تنشر الوعي الذي يفيد الانسان لينظر الى مسافة أرنبة أنفه لا أكثر، فيوهمون الناس بأنهم على درجة كبيرة من الوعي بما يجري في العالم لمجرد أنهم يقفون في طوابير طويلة على صناديق الاقتراع وينتخبون نوابهم للمجالس البلدية او لمجلس النواب.

وقد هالني – حقاً- ما صدر عن أحد "الساسة" في عهد المعارضة، وخلال إحدى المؤتمرات التي سبقت الإطاحة بنظام صدام، وعندما سئل عن سبب التهافت والتخندق في صفوف المعارضة آنذاك، فقال ضاحكاً: "إنه أمرٌ طبيعي، أما رأيتهم ما يحدث في البرلمانات الغربية..."! علماً أن هذا السياسي تبوأ فيما بعد مناصب سيادية رفيعة في الدولة العراقية. ولعل هذا تحديداً ما جعل هؤلاء الساسة، يقفون متسمّرين وقد عقدت الدهشة ألسنتهم وهم يرون ويسمعون المطالبات الشديدة من الشعب العراقي بمحاكمتهم والضغط عليهم للكفّ عن المزيد من ابتلاع المليارات والاستئثار بالسلطة والثروات، فمن المفترض – بالنسبة لهم- ان يكون الشعب في وادٍ، مشغول بهمومه الخاصة، فيما يمارس هؤلاء الساسة أعمالهم الخاصة ايضاً! بعيداً عن أضواء الفضيحة.

إن الشعارات البراقة والوعود الكاذبة التي ثارت ضدها الجماهير في العراق وفي بعض الدول العربية والاسلامية في مسيرتها النهضوية، هي التي حذر منها سماحة المرجع الراحل، لذا دعا مراراً الى التوعية السياسية الشاملة والحقيقية، وعدم الانخداع بمقولات "التحريم" التي روّج لها أهل السلطة والحكم وليس علماء الدين كما روّج لذلك كذباً و زوراً. وها هي تجارب الشعوب والأمم، وتجارب القادة، من شأنها ان تكون مادة خصبة للوعي السياسي تمكن الشعوب والامة بشكل عام للارتقاء بوعيها وثقافتها على طريق النجاح في نهضتها الشاملة.

اضف تعليق