يعيش الطغاة على صناعة التطرف، وتعيش الأنظمة السياسية على صناعة الأزمات، هذا الاستنتاج ليس وليد المزاج، أو التصورات المسبقة التي لا تعترف بالأدلة، بل هو وليد دراسات دقيقة لعلماء السياسة والمهتمين بالنظم السياسية التي حكمت دول العالم، والتي قسّمها العلماء والباحثون المختصون الى عدة أنظمة، ودرسها طلبة العلوم السياسية، فهناك النظم الديمقراطية، والنظم المركزية، وبين هذا وذاك، تتوزع أنظمة سياسية تحترم الدستور وتأتمر ببنوده وتقدسه، وأنظمة أخرى لا تحترم الدستور ولا تعترف به.
هناك حكام يكتبون الدستور الذي ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بأنفسهم وافكارهم، حيث يوجهون عددا من الأقلام المأجورة التابعة والمؤيدة للحاكم ونظام حكمه، فيكتبون دستورا شكليا، تستجيب بنوده لمصالح السلطان، ومآربه التي تقوم قبل كل شيء على حماية السلطة من أي تهديد كان، مهما كان شكله او نوعه او حجمه، فالطغاة والحكام القمعيون لا يحتملون صوتا واحدا يغرد خارج السرب!.
وعندما يفشل الدستور الشكلي بالحد من معارضة النظام الفاشل، ويتلكأ في درء خطر الأصوات الأخرى على النظام، عند ذاك يبدأ الأخير بالبحث عن سبل غير الدستور الشكلي، تعينه على مقارعة معارضيه، وتجميد خطرهم على النظام، وذلك من خلال صناعة الأزمات الداخلية والخارجية، أي يقوم النظام السياسي بصناعة أزمة ما، تشغل المجتمع والدولة برمتها، فلا يكون هناك مجالا للاحتجاج، أو المطالبة بالحريات والحقوق.
فالنظام السياسي في هذه الحالة يتحجج بالأزمة التي صنعها بنفسه، وقد يصل به الأمر الى اعلان حالة الطوارئ، حتى يتمكن من قمع معارضيه والبطش بهم من دون العودة الى القضاء، بحجة ضبط زمام الامور من الانفلات وحماية أمن المجتمع والدولة، وهذه التبريرات كما أثبتت التجارب، لا تقوم على أرضية صحيحة، وهي في الغالب حجج واهية من أجل تصفية المعارضة، وحماية عرش السلطة من الاهتزاز أو السقوط.
إن النظام الديمقراطي الذي يصل الى السلطة بأسلوب التداول السلمي، وبعيدا عن السيطرة على السلطة بالقوة الغاشمة، سوف لا يحتاج الى القمع كي يحمي نفسه، فالدستور وبنوده والقوانين هي التي تنظم الأمور كافة بين الطرفين الحاكم والمحكوم، ولا يوجد مبرر لصناعة أزمة يحتمي بها النظام من السقوط، لأنه نظام شرعي وصل الى السلطة من خلال أصوات الشعب والقبول المسبق به، لذلك لا خشية على النظام الديمقراطي من الشعب.
العنف السياسي لا يحمي الحاكم من السقوط
أما النظام الغاشم، أي الذي يصل الى السلطة بالقوة الغاشمة عبر الانقلابات وما شابه، أو الوصول الى السلطة عبر الانتخابات، ثم يبدأ بتحجيم الدستور والديمقراطية، وينقلب على الشرعية التي أوصلته الى الحكم، هذا النظام، سيجد نفسه ازاء معارضة عارمة حتى لو استخدم جميع أشكال القمع والملاحقة والسجن والتعذيب والنفي، فمن طبيعة الشعوب، مهما طال بها الأمر، لكنها في نهاية المطاف تصحو وتضع حدا للنظام غير الشرعي.
ولدينا تجارب كثيرة في التاريخ المنظور والحديث، تتحدث عن أنظمة مارست القمع بأبشع صوره ضد شعوبها، لكنها في نهاية المطاف، سقطت، وسقط حكامها، وسقطت الاحزاب التي تقف وراءها، كما هو الحال في نظام الحزب الواحد، او نظام الحزب القائد، أو الأنظمة الوراثية التي ينتقل نظامها بالوراثة من الاب الى الابن أو الى الاخ وما شابه.
ومثالا عن ذلك كما يرى الخبراء السياسيون، أن حرب السعودية على اليمن، من خلال انشاء ما سمّي بالتحالف العربي، تأتي ضمن هذا الإطار، ويقول خبراء، أن أزمات النظام السعودي الداخلية، في مجال الفساد الاداري والمالي والصراع على السلطة بين أجيال العائلة الحاكمة، جعل هذا النظام يبحث عن أزمة خارجية، يشغل بها الشعب السعودي، لكي يكمم الافواه اكثر فأكثر، ويباشر بصنع سلسلة من الازمات، كما حدث ذلك باعدام رجل الدين الشيخ نمر النمر.
ومن ثم تضخيم حالة الاحتقان المتضخمة أصلا والمنتشرة في المنطقة على نحو واضح، حيث الفتن وحرب التكفير والعقائد والطوائف قائمة على قدم وساق، ولا يزال النظام السعودي يغذي هذه الأزمات ويواصل صنعها، من اجل الافلات من الضغوط الداخلية التي يتعرض لها من لدن المعارضين والمناوئين له، ليس هذا فقط بل يحاول أن يورط معه اكبر عدد من الانظمة والحكومات الفقيرة، من خلال اغرائها بالمال والصفقات السرية والمعلنة، للدخول في ما يسمى بالحلف الاسلامي.
كما لاحظنا هذه السياسة للنظام السعودي مع مصر، مستغلة حاجتها للايرادات والاموال بسبب الضائقة الاقتصادية التي تمر بها، ويوجد من هذه الازمات الكثير الكثير، وآخرها من حيث التسلسل الزمني اعدام السلطات السعودية للشيخ نمر النمر، صانعة بذلك أزمة داخلية خليجية اقليمية ايضا، في حالة هروب واضح من أزمتها الداخلية، وشعور نظامها بالقلق على مصيره.
وقس على ذلك حكومات سياسية اخرى، تجتهد في صناعة التطرف، لكي تنأى بعرشها من السقوط، لأنها تستطيع أن تكمم الأفواه وتقتل من تشاء وتفتك بمن تشاء، بحجة الحفاظ على أمن الدولة، فيطول كل من يعارضها الاعدام، أو الحبس، او النفي، والاعذار موجودة وجاهزة وكلها تصب في حجة الحفاظ على أمن الدولة، في حين أن الهدف الحقيقي هو حماية النظام من السقوط، ولكن أية حماية وأية أساليب يمكنها أن تحمي الحكومات الفاسدة من الزوال؟؟.
محاربة الحكومات المتطرفة
اذا لم تكن هناك دوافع انسانية تدفع بالدول، لمحاصرة الأنظمة المتطرفة، فإن دوافع الحفاظ على الأمن العالمي، تستحق محاربة أية حكومة تحاول أن تطيل عمرها من خلال التطرف وصناعة الأزمات، لذا من واجب الدول في العالم كله، وخاصة تلك التي تديرها حكومات ديمقراطية، تقوم على العدالة والمساواة، أن تتعاون كي تقضي على الحكومات التي تتخذ من التطرف والتكفير والارهاب درعا يحميها من السقوط.
أما الاجراءات الواجب اتخاذها فهي واضحة ومعروفة، تبدأ بالمقاطعة الدبلوماسية ولا تنتهي بالمقاطعة الاقتصادية والسياسية الشاملة، وضرب حالة من العزلة الشديدة على هذا النوع من الحكومات القائمة على صناعة التطرف والازمات، وينبغي أن يكون هناك دور وواضح بل وحاسم للمنظمات الدولية المهم لا سيما منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، إذ لابد من التحرك الجاد لفضح ومحاربة الحكومات التي تتجاوز على حرية الرأي، وتنتهك حقوق مواطنيها، وتنشر الرعب بين مكونات المجتمع.
ولا تكتفي بصناعة الأزمات الداخلية، فتذهب الى خارج الحدود لتشعل النيران في المنطقة الاقليمية بأكملها، إن المنطق يفرض على الحكومات المتوازنة أن تحاصر الحكومات التي تعتمد التطرف والتكفير، وينبغي أن تكون هناك اجراءات رادعة ضد مثل هذه الأنظمة، على أن يتم ذلك من خلال التنسيق والتوحيد بين الاجراءات والخطوات التي تتخذها الدول ضد الحكومات المتطرفة.
إن منطقة الشرق الاوسط وخصوص الشرق الأدنى، لا تحتمل المزيد من صناعة الازمات، واقامة التحالفات والمحاور وبث الفتنة هنا وهناك، واشعال نيران الاحقاد والتوتر بين شعوب ودول المنطقة، كونها لا تحتمل المزيد بسبب حساسيتها، لذلك ينبغي أن تقوم الدول الباحثة عن السلام والتوازن، بتقديم رسالة واضحة للحكومات التي ترعى التطرف والارهاب وتصنع او تفتعل الازمات.
وهذه الرسالة أو مجموعة الرسائل، ينبغي ان تكون رادعة، وجادة، وتنطوي على اجراءات فعلية تحاصر الحكومات القمعية وتسحب من تحتها بساط التطرف والتكفير الذي تحتمي به، وفي هذه الحالة، اذا كانت الرسائل والاجراءات قوية وجادة من حيث المضمون والتطبيق، فإن ذلك من شأنه أن يشكل رادعا حيويا وكبيرا للأنظمة التي تعبث بسلامة الأمن الاقليمي والعالمي.
اضف تعليق