عزلة المثقف كما يقول ذوي الشأن أنواع، فهناك عزلة الإبداع التي تفرض نفسها على المثقف من أجل الانتاج الأفضل، وهناك عزلة التعالي والمكوث في البرج العاجي بعيدا عن الناس، وهناك عزلة الخوف والتردد وهي من أسوأ أنواع العزلة التي تقود المثقف الى مواقف تهادن (السلطة) على ارتكاب الأخطاء بحق الشعب، وبهذا المعنى هناك عزلة يحتاجها المفكر والمبدع والمؤلف والمثقف عموما، وهي (عزلة انتاج الأفكار)، وما عدا ذلك، فإن أية عزلة من نوع آخر ربما تضعف مكانة المثقف وتسيء إليه.
وفي كل الاحوال ينبغي أن يكون المثقف فاعلا حيويا مؤثرا في الآخرين، وبمعنى أدق ينبغي أن يكون المثقف نموذجا للآخرين، من حيث الرؤية والسلوك والتفكير والموقف، فهل أن المثقف العراقي بلغ هذه المكانة بين أفراد الشعب لاسيما في هذه المرحلة القلقة من تاريخ العراق؟، إن المتابع للمشهد السياسي العراقي، سوف يلاحظ أن المثقف بات يعيش في حالة تشبه حالة أصحاب الكهف، وقد استحسن النوم والصمت والحيادية وكل الصفات التي تغيِّب صوته ومواقفه، التي ينبغي أن تتصدر مواقف الطبقات الأخرى، في عمليات التصحيح عبر الوسائل المتاحة، لاسيما أننا نتفق على وجود هامش يتيح للمثقفين التحرك والقيادة والتصويب، ووضع النقاط على الحروف.
إننا بطبيعة الحال غير معنيين في رأينا هذا بالمهرجانات والندوات والانشطة الثقافية ذات الطابع الجمالي المعنوي، لأن ثمة مثقفين سيعترضون ويؤكدون ان دور المثقف حاضر وفاعل ومؤثر، وما الى ذلك من حجج وتصريحات لا نصيب لها من الصحة، عندما يتعلق الامر بالنزول الى الشارع وقيادة الطبقات الاخرى، كما لاحظنا ذلك في موجة الاحتجاجات على الحكومة في بغداد والمحافظات، فما مدى تأثير المثقف في ذلك، وهل كان حضوره فاعلا رائدا، أم أنه لا يمثل الدور الحقيقي للمثقف العراقي الذي يمثل ثقافة انسانية اثبتت حضورها الفاعل في التاريخ الثقافي الانساني برمته.
في الاجابة عن هذا التساؤل، يرى متابعون ومهتمون، أن المثقف العراقي لم يقم بدوره في هذه المرحلة بما يتوافق مع الخطورة التي تنطوي عليها، بمعنى هناك خلل في موقف المثقفين عموما، وهناك مؤشرات لا يمكن إهمالها تؤكد الضعف في دور المثقفين، بالأخص في مجال التعبير عما يعانيه العراق من مشكلات تكاد ترقى الى الخطر الذي يتهدد مصير البلاد كله.
حيادية وخمول المثقف
لا يصح أن يكون المثقف حياديا، قد نجد عذرا للشخص العادي حياديته تجاه الاحداث والظروف المتنوعة لاسيما السياسية، أما المثقف فلا يمكن أن يكون بلا موقف واضح، لذلك فإن الصمت والتردد البيِّن من لدن المثقفين ازاء الاخطاء الحكومية في المجال الخدمي والحفاظ على المال العام، تؤكد حالتين ازاء المثقف هما.. اما يكون مستفيدا من هذا الوضع ومكتفي ماديا، وهو بذلك يفضل ان يبقى الحال على ما هو عليه. أو انه يفضل الحيادية والخمول والتقاعس حتى لو كان هو نفسه، احد الذين يتعرضون للظلم باعتباره ينتمي لهذا الشعب ويعاني مما يعانيه.
وفي كلا الحالتين تبدو قضية خمول المثقف وافتقاره للموقف الواضح والتفاعل القيادي، واضحة للعيان، وإن أردنا التخفيف من حالة الموت الى الحيادية والخمول، فإن الامر لا يختلف كثيرا حيث يبقى فعل المثقف غائبا، ويبقى تأثيره ضعيفا، ولابد أن المثقفين يتذكرون بعض الخطوات الجيدة التي اتخذوها كفعل رافض ومحتج ومنتفض، كما حدث في ساحة الفردوس قبل سنوات، وكذلك في ساحة التحرير، وقد كان لهذه الخطوات الفعلية تأثيرها الواضح في تفعيل دور المثقف العراقي، وتدخله في اعمال التصحيح، بيد ان الامر لم يستمر طويلا، وكأن الصحوة المؤقتة تداهم المثقف فجأة ثم ما يلبث أن يلتزم الصمت الذي ينم عن حالة ضعف او خوف وتردد لا يتناسب ومكانة المثقف في المجتمع!!.
فالمثقف مختلف عن الآخرين، انه دائما في الصدارة، او هكذا ينبغي أن يكون موقعه وموقفه، لذلك يبقى الأمل بالطبقة الواعية قائما، فهؤلاء هم الذين غيروا وجه التاريخ في عموم المسيرة البشرية، من خلال قوة الفكر وتأثيره في إحداث الثورات التي زلزلت الأرض تحت عروش الطغاة، او الحكام المستبدين الفاشلين، لذلك فإن الامر لم ينته بعد ولا ينتهي، لأن مسار التصحيح مع السلطة لا ينتهي ابدا، لذا مطلوب من قيادات الثقافة والمثقفين وضع سياقات عمل وسلوك منهجي قائم على التخطيط والتنظيم والاقناع، لكي يتم تأكيد الحضور الفاعل للمثقف، وعدم اتهامه بالموت او الخمول او التقاعس.
علما ان بعض الانشطة الجمالية والفكرية لا تدخل في اطار الفعل القيادي العملي للثقافة، أي أنها قد تكون أقل تأثيرا من الأفكار ذات الخط الواضح، مثال ذلك بعض المهرجانات التي لا تعني التأثير الأوسع في الجماهير، وإنما تهتم بالنخبة، مثل القراءات الشعرية وما شابه، فغالبا ما يكون تأثيرها أقل من المواقف ذات التأثير الجماعي الذي يمكن أن يشمل جماهير واسعة من الشعب
ما هو المطلوب من المثقف؟
سؤال او تساؤل قد يبدو بديهيا، ولكنه من الأهمية بمكان بحيث يستدعي وقفة حقيقية للإجابة عنه، إن العراق باتفاق الجميع يمر في مرحلة يمكن وصفها بـ (الخطيرة أو المصيرية)، حيث يتعرض الى مخططات دولية واقليمية لم تراعي تاريخ هذا البلد او ثقافته، لذلك ينبغي على المثقفين الوقوف بقوة لاثبات ان العراق له جذوره الثقافية الضاربة في أعماق التاريخ، ولا يمكن لأية قوة في العالم مهما بلغت من القوة والطمع أن تلغي الهوية الثقافية لهذا البلد.
وهذا ما أكدته الحلقات التاريخية الصعبة التي هددت العراق في الماضي، لكنها مضت وانطفأ شرها بفعل الوعي الثقافي والسياسي والديني للمثقف والسياسي والمفكر ورجل الدين والمربي العرقي الذي أسهم بحماية العراق، كما ينبغي أن يفعل اليوم المثقفون والمفكرون العراقيون، لذا لابد من اعتماد بعض الاجراءات التي تتعلق بالتخطيط والتطبيق فيما يتعلق بدور المثقف، بوصفه عنصر بشري متميز، ينحو الى التصويب ورفض الظلم الذي يقع على الفقراء والشعب عموما، ويمكن للجهات المعنية بالثقافة والمثقفين، اتخاذ إجراءات فعلية من شأنها توحيد مواقف المثقفين وأفكارهم في هذه المرحلة الحرجة، وكما يلي:
- أن يعلن المثقفون العراقيون رفضهم للمخططات المعادية التي تستهدف وحدة العراق ارضا وشعبا وتاريخا.
- أن تنسجم أفكار المثقفين مع الأنشطة التي يقومون بها، والتي تعبر عن مواقفهم الداعمة للشعب والرافضة لكل الاجندات المعادية للعراق.
- أن يتم التنسيق بين قيادات المنظمات الثقافية المختلفة في عموم محافظات البلاد لكي يتم توحيد المواقف العملية بشأن الضغط المقبول من اجل التصحيح.
- أن تبتعد المنظمات والاتحادات المعنية عن إقامة الانشطة الشكلية التي لا تقود بالنتيجة الى نتائج عملية ملموسة.
- أن يؤمن المثقف بأنه قائد للمجتمع في الفكر والثقافة والسلوك ايضا.
- أن يتم تشكيل لجان متخصصة لتنشيط ادوات الضغط والتصحيح وعدم جعلها موسمية او ذات طابع اعلامي شكلي.
- أن يتم استثمار جميع الوسائل المتاحة لدى المنظمات الثقافية من اجل توصيل صوت المثقف وجعله متصدرا للآخرين، كون الثقافة مصدر الوعي والتطوير في السلوك والفكر معا.
- أن يغادر المثقفون والمفكرون حالة اليأس والعزلة عن الشعب، وأن يتزايد تأثيرهم أضعافا مضاعفة في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ البلاد.
اضف تعليق