الجهل مشكلة تعاني منها المجتمعات والدول المتأخرة، ولأن المجتمع هو حاضنة للجميع، فإن أفراد الطبقة السياسية التي تقود الدولة سياسيا، يخرجون من هذه الحاضنة، وثقافتهم من ثقافة المجتمع، ومع ذلك اذا اراد شخص ما أن يدخل عالم السياسة (المعقد)، عليه أن ينفض الجهل عن عقله تماما، ويغتسل بالعلم، ثم يدخل هذا المجال الذي يتحكم بمصائر دول وشعوب كاملة.
والجهل كما يقول المعنيون من العلماء، هو عكس العلم، وجهلَ الأمر يعني خفيَ عنه، والفاعل منه جاهل والمفعول مجهول، والجهل في الاصطلاح العلمي يقسم إلى ثلاثة أقسام، جهل بسيط وهو فهم مسألة ما دون إحاطة كاملة. وجهل كامل وهو خلاف العلم بالمسألة أي إن صاحبها لا يعلم من المسألة شيئا. وجهل مركب وهو أسوء أنواع الجهل، ويعني فهم الأمر خلاف ما هو عليه، ولطالما كتب المفكرون عن الثقافة وقدرتها على تنظيم حياة المجتمع، ودفعه نحو آفاق التطور والتحديث المستمر، حتى أن بعضهم قال اذا صحَّت الثقافة تصح معها مجالات الحياة كافة، ويصح العكس تماما.
ولا نغالي اذا قلنا أن الجهل السياسي هو أخطر أنواع الجهل، كونه يصيب صنّاع القرار، وهؤلاء مسؤولياتهم تتجاوز حدود الذات، فالسياسي يختلف عن عامة الناس، بل يختلف عن القادة في المجالات الاخرى، فالقائد أو المسؤول السياسي، يتحمل مسؤولية أمة ومصير شعب كامل، قد يتسبب بإلحاق الأذى والضرر به، أو العكس، وهذه النتيجة المحصورة بين النجاح والفشل، تعتمد على مدى تخلّص السياسي من الجهل.
وهذا يعني أن السياسي عندما يملأ فراغات الجهل بالثقافة والوعي، فإنه يعي مسؤوليته جيدا، ويفهم أن الثقافة السياسية تنتمي للثقافة بمفهومها العام، بمعنى أن الثقافة السياسية هي إحدى فروع الثقافة والمعرفة بشكل عام، ولكن في حقيقة الامر أن هذا النوع من الثقافة يكاد يكون مهملا تماما بالنسبة لذوي الشأن، ونعني بهم السياسيين الذين يديرون الحكم في مجتمعاتنا، ونحن نعني هنا ساسة الشعب العراقي، إن هناك ساسة عراقيون يعانون من الجهل السياسي، لهذا يكاد يكون هذا النوع من الثقافة غائبا ومهملا على نحو كبير.
السياسيون والقنوات الفضائية
يتسابق بعض السياسيين فيما بينهم للظهور في وسائل الاعلام، لاسيما القنوات الفضائية، ظنّا منهم أن الشاشة الصغيرة تزيد من لمعانهم وحضورهم، بعضهم تتضح عليه ملامح الجهل، وآخرون ينجحون في الاختبار بسبب تحصيلهم للثقافة السياسية، إننا نتابع ظهور الساسة على مدار الساعة وما يخرج من تصريحات لهم، عبر وسائل الاعلام المختلفة، خصوصا القنوات الفضائية والاذاعات الخارجية والمحلية، ومئات البرامج السياسية التي تضيّف عشرات السياسيين.
فنلاحظ مؤشرات ضعف الثقافة لدى السياسي، ناسيا انه يمثل شعب كامل حاضرا ومستقبلا، وقد لا يعرف أن جهله السياسي يمكن أن يتسبب بكوارث للشعب، فالخطأ السياسي لا يشبه الاخطاء الأخرى، أن أضراره كبيرة وشاملة ولا يمكن تصحيحه إلا بعد أن يلحق الخسائر الفادحة بالناس، ويلحق الأذى بهم، ويهدد مصيرهم، يحدث هذا بسبب غياب الرؤية السياسية للسياسي (الجاهل) وافتقارهم لتنظيم الافكار وطرح البرامج، وضعف اللغة التي يتحدث عبرها للإعلام وسواه.
ولسنا نحن من يقول ان ثمة كوارث قد يلحقها السياسيون بالشعب بسبب الجهل، إنما الوقائع هي التي تؤكد ذلك، والدليل أن العراق يمتلك ثروات وأموالا طائلة، ولكنه فقير في الوقت نفسه، لماذا؟ إن الحقائق تجيبنا فتقول إنه الجهل السياسي، ولهذا تفتك بنا الأمراض، والفقر، وينتعش الجهل ليس فقط في النسيج السياسي، إنما يتغلغل الجهل في الطبقات والشرائح الأخرى للمجتمع، ولو كان السياسي محصّنا من الجهل، لما اتسعت حدود الجهل لتصيب الجميع بكوارثها.
وهكذا يظهر أن ظاهرة ضعف الثقافة السياسية حاضرة بقوة في مجتمعاتنا، علما ان من أولى الاشتراطات التي تشترط بمن يعمل في السياسة ويدير شؤون الملايين من البشر، انه ينبغي ان يكون صاحب معرفة مستقاة من التاريخ السياسي البشري المتعدد المسارات والاتجاهات، فضلا عن التاريخ السياسي للبلد نفسه، بالإضافة الى أهمية الإطلاع على العلوم السياسية، كي يكون السياسي ذا عقلية قادرة على اتخاذ القرار الصحيح والمناسب المستقى من خبرات ومعارف يتقنها السياسي ويتمسك بها باعتبارها منصة الخلاص.
السياسة ليست كسب الامتيازات
قد يكون مبررا ذلك التهافت على العمل السياسي في السنوات الأولى بعد نيسان 2003، فهناك كثيرون ليس من أهل السياسة دخلوا فيها أملا بتحقيق المكاسب المادية، وهذا الأمر ليس ممنوعا على أحد، ولكن عندما تكون السياسة عملا مشاعا، فإن الجهل السياسي سوف ينتعش، وأن كوارث سياسية واقتصادية سوف تحل بالدولة والشعب، لذلك لو كان جميع ساستنا من ذوي الاختصاص في العمل السياسي ، لكنا قد تجاوزنا الأخطاء في السنوات الأولى.
لذلك لا مغالاة في قولنا، أن هناك من العاملين في ميدان السياسة يفتقرون للثقافة السياسية في ابسط صورها وأدنى مستوياتها، ومع ذلك يدخل هؤلاء في لب العمل السياسي، لهذا نلاحظ التخبط في اتخاذ القرارات والعشوائية والافتقار للمنهج والتنظيم والتنفيذ السليم، ولا شك أن هذه الفوضى ناجمة عن عمل الأشخاص غير السياسيين في الحقل السياسي، مع انهم لا يمتلكون المعرفة السياسية ولم يسعوا الى تحصيلها لأسباب عديدة، أولها أن ثقافتهم العامة ذات مستوى متدني، وهذا ينعكس على ثقافتهم السياسية حتما.
إن السياسة كما يؤكد المعنيون في هذا الحقل المعقد، لا تعني استلام السلطة فقط، إنها نوع من الادارة العميقة والدقيقة والشاملة لشؤون الدولة والمجتمع، انها تشمل عموم المهام التي تتعلق بالدولة والشعب، وهذه المهام لا يمكن أن يتصدى لها غير العارف ممن لم يهضم الفنون السياسية ولم يطلع على علومها نظريا ثم تطبيقيا، وهذا ما يحدث الآن فعلا في ساحتنا السياسية، حيث تُدار بلداننا من لدن أشخاص لا يمتلكون الفهم التام للسياسة ومتطلباتها.
ومع ذلك هناك من يقول من العاملين في السياسية، إننا نحاول أن نتعلم إدارة شؤون الدولة والمجتمع، لكنهم لا يسعون الى تحصيل المعرفة السياسية ولا يقومون بقراءة التجارب الماضية للسياسيين، وهكذا تكون ثقافتهم السياسية في حالة ضمور أو غياب دائم، الامر الذي ينعكس على الأداء السياسي للحكومة، فيكون صنع القرار فوضويا عشوائيا يتسم بالجهل وعدم الوضوح، فضلا عن الثغرات التي تتيح مجالا للفساد وما شابه، وهذا ما نعيشه منذ سنوات في واقعنا الراهن.
ولكن ينبغي أن يفهم الجميع، لاسيما من يعمل في صناعة القرار، بأن معالجة الجهل السياسي لا يتعلق بالمزاج الفردي او ظرفه، بل هي قضية تهم حياة المجتمع أولا، ومن البديهي أن يتم رفض غير المثقف سياسيا ومنعه من العمل في الشؤون السياسية بسبب الكوارث التي يمكن ان تضر بالدولة، لهذا تم تحديد الضوابط ومنها الشهادة الدراسية، لكي يتم ضمان تحصيل الثقافة في مستواها الأدنى لمن يتقدم للعمل في السياسة.
وأخيرا لابد من اتخاذ التدابير اللازمة لمعالجة هذا الخلل الخطير، ونعني به مقارعة الجهل في العمل السياسي، من خلال القيام بخطوات إجرائية ملزمة لكل من ينوي العمل في الحقل السياسي، وأهمها أن يكون ملما بثقافة عامة ومعرفة سياسية جيدة، تجعل من قراراته ومشاركاته ومسؤولياته غير قادرة على التسبب بكوارث للدولة والشعب على حد سواء.
اضف تعليق