إن الثقافة الدبلوماسية هي العنصر الأشدّ مضاءً وتأثيرا في ما اصطلح عليه منذ أمد بعيد بالقوة الناعمة، وعليه لابدّ أن تكون الثقافة الدبلوماسية حاضرة في المشهد العام العراقي أسوة ببقية دول العالم المتحضرة القريبة منا والبعيدة عنا، هذا إذا كنّا جادّين فعلا في طي صفحة الماضي المتخلفة، والسير في مضمار التقدم، والتطور...
لا يخفى على أحد أن الوسائل الدبلوماسية لاسيما الأدوات الخادمة لعملية التفاوض تمثّل الخيار الحضاري الأول والأخير في معرض المقارنة بينها وبين قرار الحرب في سياق تسوية النزاعات بين الدول والمجتمعات، فسلطة الثقافة ذات أثر مباشر وفاعل إذا ما أحسن استثمارها تفاوضيا، وهذه السلطة بذاتها تعدّ حجر زاوية في بناء القوة العالمية، وتتمظهر عبر صور عديدة لا تنحصر في الإطار السياسي الدبلومسي حصرا بل تتعداه إلى أنماط أخرى من التأثير في مجالات عدة كالفنون والآداب، والسوشيال ميديا، وتتغلغل في ضمن العلاقات الاجتماعية التي تجمع أطراف النزاع في مستويات جغرافية متعددة، ويمكن أن يتخذ التغلغل ساحات متعددة كالمعارض، والأسواق، والمسابقات، وما إلى ذلك من أدوات ووسائل تختلف في تفاصيلها، وتتحد في مقاصدها الأساسية.
إن من شأن الثقافة الدبلوماسية أن تدخل بوصفها عنصرا مساعدا لإتمام الاتفاق، أو تذليل العقبات التي تعترض طرق الوصول إلى حل يحظى بقبول المتنازعين. وكلما استوعب الطرف المفاوض الآثار الآنية والمستقبلية المحتملة للثقافة في السياسة بوجه عام زادت قدرته على إحراز نقاط قوة لصالحه على حساب الطرف الخصم، وزادت قدرته على إكساب العملية التفاوضية قدرا كبيرا من المرونة اللازمة لنجاح العملية التفاوضية، وسواء أكانت نتيجة التفاوض تصب في صالحه هو فحسب، أو تصب في مصلحة الطرفين المختلفين، أو الأطراف المختلفة من حيث الرؤى والقناعات الأولية...
وعلى الرغم من إدراك العالم بإسره للأهمية الهائلة التي تتضمنها الثقافة الدبلوماسية، إلا أنه في حيّز التطبيق نلاحظ ثمة تفاوتا شاسعا بين هذه الدولة وتلك من حيث تنشيط الثقافة الدبلوماسية، أو وضعها في مرتبة متقدمة ضمن سلّم الأولويات...
وغالبا ما يُضرب المثل بدول معينة باعتبارها أكثر إجادة من غيرها في توظيف الثقافة الدبلوماسية لتنفيذ خططها سواء القصيرة منها أم المتوسطة أم بعيدة المدى، وفي مقدمة تلك الدول التي تتحلى بالمواصفات المذكورة آنفا هي الولايات المتحدة الأمريكية التي تهتم بما تنتجه مدينة هوليود السينمائية كما تهتم بما ينتجه وادي السيليكون، وكما تهتم بما تنتجه مصانع السلاح الثقيلة ممثلة بالشركات الكبرى مثل شركة “لوكهيد مارتن” التي تعد أكبر شركة أسلحة في العالم، وشركة “رايثيون تكنولوجيز” وشركة “بوينج” وشركة “نورثروب جرومان”، وشركة “جنرال ديناميكس”، وغيرها...
فقد وضع المخطط الستراتيجي الأمريكي نصب عينيه الاهتمام باقتصاديات الثقافة، واقتصاديات السوق،واقتصاديات التكنلوجيا، واقتصاديات السلاح ، وأولى لكل منها العناية نفسها، والاهتمام ذاته...
وبما أن خير وسيلة للتقدم، والتطور هو محاكاة النماذج الناجحة فلا مناص إذن من تقليد التجربة الأمريكية، أو أي تجربة عالمية ناجحة إذا ما قرر بلد متراجع ما أن يقطع مسافات جيدة على طريق التقدم، والتطور، وبقدر ما يتعلق بالعراق بوصفه دولة ومجتمعات، فلا غنى له عن اتباع هذا السبيل في تنظيم علاقاته الخارجية، وكذلك في نطاق العمل ضمن مجتمعاته الداخلية سواء منها التشكيلات الحديثة كالنقابات، والاتحادات، ومنظمات المجتمع المدني، والعمل على منحها دورا رئيسيا في مجال الثقافة الدبلوماسية كلما لزم الأمر ذلك، أو في إطار المجتمعات التقليدية، ويأتي في صدارتها بطبيعة الحال المجتمع العشائري الذي يكاد يتصرّف في ظروف شتى بوصفه دولة داخل دولة خاصة من الناحية العسكرية!
فهذا المجتمع تحديدا هو في أمّس الحاجة إلى استثمار ما تُعرف بالثقافة الدبلوماسية، وتغليبها على ما سواها من ثقافات لاسيما داخل شبكة علاقاته المحلية أثناء الخصومات والنزاعات البينية، لأن إعمال أدوات الثقافة الدلوماسية له أبلغ الأثر في الحدّ من مظاهر العنف، والتعدي على حقوق الآخرين، وهي الظاهرة التي تطفو على سطح الأحداث في المشهد الاجتماعي العراقي باستمرار، فكثيرة هي النزاعات العشائرية التي تحدث بين وقت وآخر في مناطق واسعة داخل الخريطة الجغرافية العراقية، وتنتهي غالبا بخسائر جسيمة في الأرواح والممتلكات، وكان بالإمكان تفاديها تماما لو تمّ اللجوء إلى الأساليب الثقافية الناعمة عوضا عن الالتجاء إلى العنف واستخدام السلاح، هذا السلاح الذي تتحمل الدولة -بالمناسبة- المسؤولية المباشرة عن ظاهرة استشرائه بين المواطنين في تحد سافر لقوانين الحظر، واشتراطات الترخيص...
إن الثقافة الدبلوماسية هي العنصر الأشدّ مضاءً وتأثيرا في ما اصطلح عليه منذ أمد بعيد بالقوة الناعمة، وعليه لابدّ أن تكون الثقافة الدبلوماسية حاضرة في المشهد العام العراقي أسوة ببقية دول العالم المتحضرة القريبة منا والبعيدة عنا، هذا إذا كنّا جادّين فعلا في طي صفحة الماضي المتخلفة، والسير في مضمار التقدم، والتطور.
اضف تعليق