لا يقتصر التلوّث على الأشياء المادية، كالسلع وما شابه، بل هناك تلويث خطير يطال العقول والقلوب والنفوس، عبر تلويث الأفكار والزج بها نحو العقول والقلوب، ومن ثم تحويلها من حالاتها الفكرية المعنوية، إلى تطبيقات عملية تستطيع أن تلحق بالمجتمعات والأفراد أفدح المخاطر والخسائر...

لا يقتصر التلوّث على الأشياء المادية، كالسلع وما شابه، بل هناك تلويث خطير يطال العقول والقلوب والنفوس، عبر تلويث الأفكار والزج بها نحو العقول والقلوب، ومن ثم تحويلها من حالاتها الفكرية المعنوية، إلى تطبيقات عملية تستطيع أن تلحق بالمجتمعات والأفراد أفدح المخاطر والخسائر.

إذن من الممكن أن يحدث تلويث للماء وللطعام، كما يمكن تلويث للهواء بالغازات السامة أو سواها، ومن الممكن قتل الناس بالأطعمة التي تُصنَع من مواد رديئة أو مزيفة، وغالبا ما يكون هناك استهداف في مثل هذه القضايا، ويكون هناك تخطيط مسبق للقيام بمثل هذه الأعمال التي تعد إجرامية، كونها تلحق الأمراض واحيانا الموت بالبشر.

لكن هل تنبّه الأفراد، والمجتمعات، والنخب، والمسؤولون إلى النوع الأخطر من أنواع التلوث ونعني به التلوث الذي يصيب العقول والقلوب بمقتل، فكما يوصَف القلب بأنه وعاء الأشياء والأحداث، وكل ما يعيشه الإنسان من أحداث وما يراه وما يتغلغل في ذاكرته، هو في الحقيقة يسكن قلبه، لذلك يُقال من الأفضل للإنسان، بل من الواجب عليه أن يحمي قلبه من القضايا السلبية كأن يحصّن هذا القلب من الكراهية ويغلق الأبواب أمام مصدرها.

ضرورة العيش في بيئة صالحة

كذلك يُقال أن على الإنسان أن يعيش في بيئة صالحة، لا تبث الأفكار والأقوال والأفعال المسيئة، حتى لا تتراكم في قلبه وفي عقله، وكل هذه الأنواع من التلوث تعد من الملوثات المعنوية والفكرية التي قد تكون في بعض الأحيان أشد فتكا من التلوّث المادي.

ومثلما يهرع الإنسان للمستشفيات أو للأطباء والعيادات الاستشارية، لكي يعالج جسده من تلوّث ما حلّ به، كأن يكون تعرض لتناول طعام مسموم، أو ماء وشاي وعصير ملوث، وهذه كلها سموم مادية يمكن أن تفتك بجسم الإنسان فتكا قاتلا، مثلما يسارع بأقصى ما يستطيع لينقذ نفسه من السم أو الشراب الملوث، عليه أن يحرص تمام الحرص على إنقاذ نفسه من النوع الآخر وهو التلوث المعنوي والفكري.

فهذا النوع من التلوث وإن كان لا يصيب الجسد، لكنه من الممكن جدا أن يصيب عقل الإنسان وتفكيره، ومن الممكن جدا أن يزعزع قلبه ويجعله خاليا من الإيمان، متشككا في كل شيء، وهذا التلوث كفيل بعزل الإنسان عن الناس، عن محيطه، والتوقف عن عمله، والضياع في متاهة العزلة القاتلة، حيث تختلط عليه الأمور ولا يثق بالناس، بل لا يثق بنفسه، فيكون عرضة للفشل الذريع اجتماعيا وعمليا.

وتكون النتائج هي خسارة الإنسان لنفسه، ولقدراته ولحاضره ولمستقبله، كما أن المجتمع نفسه يخسر أحد عناصره، ليس هذا وحده، بل يتحول هذا الفرد الملوَّث معنويا إلى عالة على المجتمع، وبدلا من أن يكون عنصرا منتِجا معافى صحيح الجسد، يكون عاطلا معطّلا عن الإنتاج، ولا فائدة منه مجتمعيا.

مسؤولية المؤسسات الرسمية والأهلية

وهكذا تكون الخسارة مزدوجة، فردية شخصية، وخسارة مجتمعية، وحينئذ يتعرض الاثنان أو الطرفان إلى خسائر كثيرة، لذلك من الواجب على المؤسسات الاجتماعية المختلفة، والمنظمات الفكرية والثقافية وسواها، الأهلية والرسمية على حد سواء أن تتنبه لمثل هذه الخسائر الكبيرة الناتجة عن التلوث المعنوي للأفراد. كذلك من الواجب على النخب التي تقود المجتمع، ومن المؤسسات الحكومية نفسها أن تراقب وترصد مثل هذه الحالات من التلوث.

فمثلما تقوم المؤسسات الرسمية المسؤولة بعمل لجان تحقيقية لكشب أسباب تسمم الأشخاص، أو أسباب الحرائق، أو أسباب تلوث مادة الكلور السامة من بعض محطات تصفية الماء وتنقيته، عليها في نفس الوقت أن تراقب مصادر التلوث المعنوي، وتشكل اللجان الراصدة لها، والعمل الحثيث على معالجتها.

كيف يمكن أن تُعالَج حوادث التلوث المعنوي والفكري، هي في الحقيقة ليست حوادث، لأنها غير مرئية وليست ملموسة واقعيا، لذلك تعد من أعقد وأخطر الملوثات، لأنها تصيب العقول والقلوب، وتنعكس على السلوكيات، فالخطوة الأولى أن يخضع الملوَّثون معنويا إلى المعالجات النفسية، لأن معظم مجتمعاتنا التي أجبرت على خوض الحروب وتعرضت للكراهية والعنصرية، أصيبت بمرض التلوث المعنوي والفكري والنفسي.

هذا الأمر يستوجب معالجات مستدامة، وليست وقتية، ويجب رصد هذه الحالات بشكل مستدام أيضا، وعلى الجهات المسؤولة أن تعد العدة بنفسها، وتتصدى لهذه الظاهرة التي أخذت بالتزايد، كي تحد من أمراض التلوث المعنوي والفكري، مثلما نراها حريصة على معالجة التلوث المادي، لأن هذين النوعين من التلوث يفتكان بالناس بنفس الدرجة، هذا إن لم يكن التلوث المعنوي الفكري أكثر وأكبر حدة وخطرا.  

اضف تعليق