"... وتلافيك ما فرط من صمتك أيسر من إدراكك ما فات من منطقك"، صحيح؛ أن الصمت، يمثل حالة سلبية في زماننا الحاضر، بينما الكلام، سيد الموقف كونه لغة الاحتجاج والاعتراض والمطالبة، بيد أن الصحيح ايضاً، الاحتفاظ بجانب الحكمة في مفهوم الصمت وعدم تجاهلها والتنكّر لها، بالرغم من الأجواء والظروف الاستثنائية تعيشها الشعوب والامة جمعاء.
يكفينا الاستشهاد بومضة حكم الإمام علي بن أبي طالب، عليه السلام، وهو يتلو نصيحته الى ابنه الامام الحسن، عليه السلام، مؤكداً أهمية الصمت على المدى البعيد، و إمكانية التعويض عما يتسبب في ضياعه جراء عدم المطالبة والمتابعة بصوت عال، بينما الصعوبة تكمن في تلافي الاخطاء الناجمة عن الكلام في أي شكل من أشكاله.
المعارضة بالطريقة الصائبة
بسبب شدة الأزمات وعدم احتمال الناس الصمود أمام المشاكل المحيطة بهم، بات الصمت يمثل حالة وسمة، قبل أن يكون مفهوماً قابلاً للبحث والدراسة، فالصمت – لدى البعض- بمعنى الخنوع والسكوت بإزاء الحقوق والمظالم، لذا نجد إطلاق الهتافات والشعارات بصوت عال في التظاهرات والتجمعات، هو الحالة الصحية اليوم، بل يعده الكثير بأنه يندرج ضمن الممارسات الديمقراطية.
وفي عديد البلاد الحديثة العهد بالديمقراطية، جرّبت الشعوب إطلاق الشعارات بصوت عالٍ في الشوارع والطرقات، وحتى أمام تهديد السلاح والاعتقال والموت. لكن السؤال: هل إن كل هذه التجارب أتت أُكلها وأثمرت عن نتائج مرجوة؟.
نعم؛ الثمار والنتائج تتمثل – في الاغلب في تعديل بعض السياسات واتخاذ اجراءات تلبي الارادة الجماهيرية وتمتصّ غضب الشارع، وهذا معمول به حتى في الدول المتقدمة ديمقراطياً، في حين يطمح الكثير منّا بتحقيق تحولات وتغييرات جذرية في السياسة والاقتصاد والأمن وكل شيء في هيكلية الدولة، وربما يشعر البعض بقدرة الشعارات التي يطلقها في الشارع على إسقاط هذا الرئيس وذاك الوزير وإدخال الرعب في نفوس المسؤولين الفاسدين في الدول التي تدّعي الديمقراطية، في حين نلاحظ في بعض الدول تجارب من نوع آخر للتعبير عن الرفض والاستنكار بالصمت، او الاستلقاء في الشوارع وعدم التحدث بأي كلمة. وربما يكون منظر طفل صغير او امرأة كبيرة السن وأي موطن آخر، وهو يحمل شعاراً بيده أو يعلقه على صدره، أبلغ لغة وأنفذ الى مصدر القرار، من الهتافات العالية التي ربما تولد، بحد ذاتها حالة من ردة الفعل العكسية، وتثير – الى حدٍ ما- نزعة "العزّة بالإثم" لدى بعض المسؤولين المعنيين بالإدانة، فضلاً عن أن هذه المناظر وغيرها، من شأنها ان تتحول الى صور معبرة ومواد إعلامية قابلة للانتشار السريع والمؤثر في العالم.
إن صياغة المعارضة الصائبة هي التي يجب ان تبحث عنها شعوبنا الطامحة للتغيير الحقيقي، من خلال التحلّي بمزيد من الوعي واليقظة، لتكون لغة المعارضة والرفض نابعاً من صميم قاعدتها، وليس من جهات حزبية وفئوية او حتى من خارج الحدود، تستثير العواطف وتجيّر المشاعر لحساب مصالح خاصة.
وهذا ما يحذرنا منه كبارنا وقدواتنا، متمثلين في الأئمة المعصومين، عليهم السلام، فهذا أمير المؤمنين، عليه السلام، يقول: "من كثر كلامه كثر خطأه"، ويحدد الامام الصادق، عليه السلام، علامة الجاهل بأن "من أخلاقه: الاجابة قبل ان يسمع والمعارضة قبل ان يفهم، والحكم بما لايعلم". وحسن الاستماع الذي جاء في عديد الاحاديث والوصايا، يمكن ان نجد تطبيقه اليوم في "حسن القراءة"، فالقراءة والمطالعة في الاجواء الهادئة، هي التي تولّد الفكر وتكشف عن الرؤية نحو المستقبل وما تحديد ما يجب ان تكون عليه الاوضاع. وهذا ما يمكننا ان نصطلح عليه بـ "المعارضة الواعية"، التي تفكر وتتدبّر قبل ان تتكلم وتطلق الهتافات.
ما قلّ ودلّ
ربما يتحدث البعض عن ثورات وانتفاضات جماهيرية أسقطت عروش وأنظمة ديكتاتورية في العالم، إلا أن الصحيح ايضاً، أن الحكومات المشبوهة في سياساتها وإدارتها للأمور، تخشى من كلمة في صحيفة او وسيلة اعلامية، أو من حديث يدلي به مفكر او مثقف في محفل ثقافي، اكثر من خشيتها من تظاهرات وهتافات عالية، وحتى من اعتصامات ومسيرات احتجاجية، مع ما ترافقها من صدامات ومظاهر عنف، لان مظاهر العنف هذه، ومعها الهتافات والشعارات، مهما كانت محقّة، فانها قابلة للنقاش والردّ، لاسيما اذا خرجت عن سياق السلم الأهلي وباتت تهدد الاستقرار والأمن العام، فنلاحظ بعض الحكومات تتشدّق بهذا لاسكات اصوات المتظاهرين، وربما تلاقي هذه المحاولات رضىً من شريحة أخرى في المجتمع، بيد أن الكلمة المركزة لا يمكن ردّها وقمعها، إلا بقمع وتصفية صاحبها. وهذا ما حصل في تجارب عديدة في العالم، حيث انفجرت ثورات وانتفاضات غيرت أنظمة حكم بكاملها، بفعل صاعق من كلمات تحدث بها هذا المفكر او ذاك.
من هنا نعرف أن "الصمت"، ليس السكوت بتاتاً، إنما هو الإقلال من الكلام والهذر بما يضر ولا ينفع، ويوقع صاحبه في التناقضات والاحراجات وربما تسبب له التراجع ثم التخاذل عندما لا يجد في جعبته ما يدافع به عن شعاراته وأهدافه.
اضف تعليق