يبدو أننا سنظل حتى هذه اللحظة، متورطين بكل أخطائنا التي نعرفها، ولكننا نتسامح مع وجودها، ونقبلها من دون أن نرفض وقوعها. احدى الكاتبات.
أبدأ بهذه النكتة، وقمت بتحوير كلماتها من العامية الى الفصحى، كوني انتمى الى (النخبة المثقفة)، وعملية التحويل – اعترف – قد افقدتها الكثير من الحيوية، لكن المعنى بقي على حاله، ولا اقصد من ذلك، (المعنى في بطن الشاعر).
جاء أحد الأطفال لصاحب محل وسأله: هل لديك ايس كريم؟ اجابه صاحب المحل: نعم. قال الطفل اعطني جبس. في اليوم التالي جاء نفس الطفل وسأله: هل لديك حب عباد الشمس؟ اجابه: نعم. قال الطفل: أعطني بسكويت. في اليوم الثالث حضر الطفل وسأل صاحب المحل: هل لديك علكة؟ اجابه: نعم. قال الطفل: أعطني نفاخة. صاحب المحل ضجر كثيرا، لكن ما الذي يمكن ان يفعله. في اليوم التالي يصدف ان يأتي والد هذا الطفل الى المحل، ليجد صاحب المحل ذلك فرصة ليشتكي له ابنه. استمع الوالد اليه: ثم سأله: هل لديك عصا؟ اجابه نعم. قال الوالد: حين يأتيك مرة أخرى اصفعه.
هل تذكرون سبب التظاهرات المستمرة منذ أسابيع؟ بدأت في البصرة ضد وزارة الكهرباء بعد ارتفاع درجات الحرارة الى معدلات قياسية. وكانت اشهر لافتة رفعت في التظاهرات هي (يا وزير الكهرباء.. هذا الكيزر كيزرنا يانور العين.......... من نيسان مطفّينة هالحر منين)
ما الذي فعله رئيس الحكومة في رزمة اصلاحاته الأولى؟ اقال وزير البيئة.
تلك النكتة هي مصداق للمثل العراقي الذي يقول (شي ما يشبه شي) أي ( شيء لا يشبه شيئا اخر).
اعود الى الماضي القريب.
لا توجد غير صحف النظام الحاكم قبل العام 2003، وهي فقط الثورة والجمهورية والعراق، والقادسية، فلا صحيفة مستقلة في ذلك الزمن، يكتب بها صحفيو العراق الذين لم يسلموا من التسبيح باسم القائد الضرورة وحمده.
أحيانا وللهروب من ضجر الروتين الكتابي كانوا يفتعلون بعض المعارك بينهم، وخاصة في ما يتعلق بأسلوب الخطاب، وطريقة الكتابة، بعد ان انتشرت موضة (الحداثة) في الكتابة الأدبية والصحفية.
في أحد الاعداد من صحيفة القادسية على ما اذكر، تحدى أحد الكتاب قراء الصحيفة ان يفكوا طلاسم أحد النصوص المنشورة في صحيفة أخرى لاحد الكتاب.
اذكر يومها أنى دخلت الى هذا التحدي، وحاولت بكل وسيلة ممكنة اتاحتها لي قراءاتي الكثيرة في اللغة والادب ان افك طلاسم هذا النص لم أستطع الى ذلك سبيلا.
اكتشفت بعد سنوات ان اللغة في الأنظمة الاستبدادية تفقد معناها، وان ما نتحدث به هو كلمات جوفاء لا تحمل أي معنى ولا تشير الى أي دلالة.
بعد العام 2003 تطورت الأساليب الكتابية ولغة الخطاب في الصحافة وفي كل المجالات الأخرى، لكنها في معظمها بقيت على حالها لا تقول شيئا، وان اللغة فقدت معناها بصورة اكبر، وهذه المرة بعد دخول عوامل جديدة غير عامل الاستبداد، رغم اختفائه الظاهر بوجهه السياسي الا انه بقي عميقا في جوانب أخرى من ثقافتنا، لنكتشف هذه المرة اننا نعيش في عالم غرائبي، عجائبي، خرافي، وان أسماء من قبيل (زايرهاون، هنيين المدلغم، سفيّح الفاهي، إسكندر ابو نغفه، دوّاس الصاحي، جبار ابو الشربت، طنطل السبع، السعلوّة، خرتيت المراعي)، كلها شخصيات حقيقية في الواقع الخرافي العراقي.
هذا الواقع الخرافي بكل حمولاته عصي على التحليل والتفكيك، ومهما حاول المثقفون ان يفكوا طلاسمه فانهم لا يستطيعون الى ذلك سبيلا (المثقف العربى لم يدعو الى شئ الا حدث عكسه – علي حرب).
يمكن قراءة ما حدث ويحدث في العراق على ضوء نص متخيّل، مفترض، لشخصية واقعية، وهو سياسي عراقي، دأب في حواراته ان يتحدث بلغة فقدت معناها، وهو جالس في برجه العاجي، برج المفكر، والمنظّر، وهي دعوة للقراء ان يفكوا طلاسم هذا النص المفترض، بالعودة الى حوارات هذه الشخصية الموزونة (تماهيا مع خطب الدكتاتور الموزونة لمحمود درويش):
(ان ما حصل من تظاهرات، لا يمكن اختزاله ضمن متبنيّات موهومة بمسمى التظاهرات، فالتظاهر هو ان يعيش الفرد حالة الظهور بكل انساقها وفلسفتها غير المترابطة في جدلية المادة والمعنى، والقابلة للاختزال في ثنائية (الشعبوي والنخبوي)، اما المشاهد التي رأيناها من شاشات التلفزة فهي حالة التنامي اللاشفافة الخاضعة لتراكيب التمايز المتماهية مع الانساق المقولبة والتي لا تلامس الجرف الأول من الانسنة المتسامية البالغة الشفافية، والتي توارثها البعض من ثقافة (الطلقة) المؤسلبة في متبادلة السيرورة والصيرورة).
يمكن وصف هذا النص ب (الدوغمائية العائمة على جناح اللغة المركونة في قاع الوهم).
حتى الان نسمع جعجعة ولا نرى طحينا من رزم الإصلاح التي قدمت وتفاعل معها المتظاهرون وغالبية المجتمع العراقي.
وهذه الإصلاحات المفترضة، هي في واقع الامر جزء من ورقة الإصلاحات التي تشكلت على أساسها الحكومة بعد الانتخابات الأخيرة، وبقيت في الادراج حتى حانت ساعة اخراجها مع خروج التظاهرات.
لا يمكن للإصلاح ان يمضي في رحلته اذا لم تضرب الرؤوس الكبيرة بيد من حديد كان قد سلمتها المرجعية الدينية لرئيس الحكومة، وحتى هذا الضرب المفترض ان يكون داميا ومدويا، لا يكون مقنعا الا بحدوثه بصورة علنية امام الاخرين، أي يتم نقله مباشرة من قاعات المحاكم او قاعة مجلس النواب. (لا تقول سمسم اذا لم تلتهم).
ما اريد قوله، ان الحكم على فلان بسنة واحدة، مقابل أرواح الاف العراقيين هو ثمن بخس جدا لتلك الأرواح، وان الحكم بسنة واحدة على متهم بقضية فساد سرق فيها ملايين الدولارات هو ثمن بخس لتلك الجريمة، فبأمكان بضعة ملايين قليلة من تلك الكثيرة ان تخرج هذا المتهم من السجن، كما حدث مع عدد من سجناء القاعدة وداعش في اكثر من سجن في سنوات ماضية.
حتى الان الحيتان الكبيرة بعيدة عن المساءلة، ولا احد يفكر بالاقتراب منها بصورة جادة، مجرد اقتراب (لغوي) يتكفل الاعلام بتضييق مسافاته، لكنه على ارض الواقع بعيد جدا، لا يمكن تضييق مسافاته الا بالاقتراب منها ووضعها في مصائد القضاء، والحكم عليها وجاهيا وعلنيا، وتلك هي الطريقة الواجبة لتنظيف السلالم.
اضف تعليق