الشرق الأوسط على كف عفريت يمكن ان يطيح بدوله الهشة، وان يفاقم مشاكله المتفاقمة أصلا.
هناك داعش، وأسعار النفط التي تواصل الانخفاض، والبنى التحتية المتهالكة، والبنى المعنوية التي يزيد انهاكها، على مستويات المعرفة والثقافة، وهناك التسلط السياسي والاجتماعي، وهي كلها عوامل تدفع الى مستويات غير مسبوقة من هجرة مواطنيها باتجاه الغرب.
رغم ذلك شهدت منطقة الشرق الأوسط (صيحة تغيير لم تشهدها من قبل قط)، هذه الصيحة لفتت العديد من المؤسسات الدولية والإقليمية والتي اخذت تقدم مقاربات او توقعات حول كيفية حدوث التغير في هذه المنطقة.
هناك بعض الدوائر والمهتمين يأملون في حدوث تغيير ثوري عبر هبّات جماهيرية لتحويل الأبنية غير المتعادلة للقوة والدخول الى افاق للديمقراطية والتنمية.
ان الثورات لا يمكن التخطيط لها. فعلى الرغم من ان الثوريين ينخرطون بالفعل في مؤامرات وتجهيزات، فان الثورات لا تنتج بالضرورة عن مخططات جاهزة، اذ ان لها منطقها المحرك، وهي تخضع لخليط معقد من العوامل البنائية والعالمية والسيكولوجية وحتى عوامل الصدفة.
هل الثورات امر مرغوب فيه؟
ان الذين خبروا الثورات غالبا ما يربطون بين الثورات العنيفة بتوقف الحياة فجأة، والتدمير، وعدم اليقين. واولا وقبل كل شيء فانه لا يوجد ما يضمن ان تتمخض الثورة عن نظام اجتماعي عادل.
ثمة وجهة نظر بديلة تقول بانه بدلا من انتظار ثورة غير يقينية، فان التغير يمكن ان يحدث عبر إلزام الدول بإجراء إصلاحات سياسية واجتماعية لها صفة الاستدامة.
تتطلب هذه الاستراتيجية لتغيير الاوضاع دون عنف، تتطلب قوى اجتماعية ذات بأس –حركات اجتماعية (للعمال والفقراء والمرأة والشباب والطلاب والحركات الديمقراطية الاوسع) او أحزاب سياسية حقيقية، يمكن ان تتحدى السلطات السياسية وإيجاد قاعدة عريضة لمطالبها، وينخرط عدد كبير من النشطاء والمنظمات غير الحكومية في الشرق الأوسط في حركات مستمرة لتغيير الظروف المعاصرة.
كيف تستمر الحركات الاجتماعية والسياسية في الوجود، في الوقت الذي تكشف فيه النظم التسلطية عن قدر كبير من اللاتسامح تجاه النشاط السياسي المنظم، وحيث يكون قهر المجتمع المدني أحد السمات الأساسية لمعظم الدول في الشرق الأوسط؟
هذا السؤال وغيره من أسئلة كثيرة يحاول الإجابة عنها الكاتب والأكاديمي الإيراني آصف بيات أستاذ علم الاجتماع ودراسات الشرق الأوسط في جامعة إلينوي، في كتابه "الحياة السياسية: كيف يغير بسطاء الناس الشرق الأوسط"
يسعى المؤلف في هذا الكتاب، إلى البحث في الحياة اليومية للمدن داخل الشرق الأوسط، عبر التركيز على الطرائق المتنوعة التي يحاول بها الناس العاديون الذين يعيشون على الهامش ( فقراء الحضر، النساء، وجماعات أخرى من جماهير الحضر) التأثير على مسارات التغيير في مجتمعاتهم.
يتم ذلك من خلال رفض هذه المجموعات الخروج من الحلبة السياسية والاجتماعية التي تسيطر عليها الدول التسلطية والسلطة الأخلاقية والاقتصاديات الليبرالية الجديدة، من خلال البحث عن فضاءات جديدة يستطيعون من خلالها أن يجعلوا صوت رفضهم يسمع.
وبرأي المؤلف، فإن الطرائق التي بات يغير بها هؤلاء الأفراد العاديون مجتمعاتهم، ما عادت تدخل في نطاق الاحتجاجات الجماهيرية أو الثورات، هذا على الرغم من أن هذه الاحتجاجات وتلك الثورات تمثل جانبا من جوانب الحراك الشعبي، حيث نجدهم على العكس من ذلك باتوا يلجؤون إلى ما يطلق عليه (اللاحركات الاجتماعية)، التي أخذت تشير إلى المساعي الجمعية لملايين الفاعلين الذين لا تربط بينهم روابط جمعية، والتي تظهر في الميادين العامة والشوارع الخلفية والمحاكم والمجتمعات المحلية.
ما هي اللاحركات الاجتماعية؟
يشير الكاتب في الفصل الأوّل من الكتاب إلى أنّ مصطلح اللاحركات هو جزء من الأنشطة الجماعية التي يقوم بها أفرادٌ لا ينتمون إلى فئة أو إلى طبقة واحدة؛ فهم يقومون بممارسات مشتركة ينخرط فيها عدد كبير منهم حتى لو كانت هناك منظمات أو مؤسسات تشكّل أنماط هذه الممارسات.
ووفقا لبيات (اللاحركات الاجتماعية) تشير الى النشاطات الجماعية لناشطين غير مجتمعين : هم يمثلون مشاركة أعداد كبيرة من الناس العاديين وأنشطتهم مجزأة لكن متشابهة وتؤدي إلى تغير اجتماعي بدرجة كبيرة على الرغم من أن تلك الممارسات نادرا ما يتم توجيهها من قبل ايديولوجيا أو قيادات ومنظمات معروفة.
وتتطور(اللاحركات الاجتماعية) عن طريق (فن الوجود) و(الشجاعة) و(الابداع) لتأكيد الإرادة الجماعية على الرغم من كل الصعاب للتحايل على القيود ، وذلك باستخدام ما هو متاح واكتشاف مساحات جديدة يمكن من خلالها الإنصات ورؤية وشعور وادراك النفس.
بالنسبة لبيات فإن اللاحركات هي أيضا نتاج (تجاوزات هادئة لأناس عاديين) والتي يسعى من خلالها فقراء المدن من خلالها في الشرق الأوسط الي التعامل مع أثر السياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة والعولمة، وفشل الدولة لتلبية احتياجاتهم.
(التعديات الهادئة ) هي (أنشطة لاجماعية لكن مطولة ومباشرة من أفراد وأسر مشتتة للحصول على ضروريات أساسية في حياتهم (مثل الأرض مقابل المأوى والاستهلاك الجماعي في المناطق الحضرية أو الخدمات الحضرية، والعمل غير الرسمي وفرص العمل والأماكن العامة) وذلك بأسلوب هادئ ومتواضع وغير قانوني.
ويقارن بيات هذه الحركات مع الحركات الاجتماعية المنظمة في الغرب من حيث التناقض. وفقا لعلماء الاجتماع الغربيين تنشأ (الحركات الاجتماعية) عن طريق ثلاثة عناصر أساسية.
أولا ، يجب أن يكون للحركات تنظيم وتدعيم لمطالبها من السلطات .
ثانيا يجب أن تكون لديها ذخيرة من الاداء مثل المسيرات في الشوارع والاجتماعات العامة والجمعيات والتصريحات الإعلامية.
ثالثا، ينبغي أن تكون لدى الحركات مجموعة متنوعة من الأنشطة السياسية وهي (تمثيلات عامة من اجل قيمة القضية ووحدتها وأعدادها والتزاماتها) .
ومن ناحية أخرى تحمل الحركات الاجتماعية في الشرق الاوسط خصائص مختلفة:
أولا، لديها الميل أن تكون غير ناطقة لكن نشيطة في وجودها. مطالبها مبنية على أسس فردية وليست جماعية تحركها ايدولوجيا مسموعة وموحدة.
ثانيا ،على الرغم من فرض الحكومة لعقوبات ، فإن الشعب يمارس مطالبه مباشرة وهذا عوضا عن الحشد والتنظيم تحت يد قادة يقومون بالضغط على السلطات.
وأخيرا تجري المقاومة خلال الحياة اليومية وليس من خلال أعمال استثنائية مثل حضور اجتماعات، أو عرض التماسات، أو وضع ضغوط . . . الخ.
فن الحضور اليومي داخل الشارع
تقوم الفكرة الأساسية لهذا الكتاب اذن، على أن الفضاء العام الحضري قد استمر بوصفه المسرح الرئيسي للجدل أو الحوار السياسي. فعندما يحرم الناس من القوة الانتخابية لتغيير الأشياء، فمن المحتمل أن تتجه مناطق نفوذهم النظامية (كما يفعل الطلبة أو العمال عندما يضربون عن الدراسة أو العمل) لإحداث ضغط جمعي لكي يجبروا السلطات على إحداث تغيير.
ولكن بالنسبة لفئات حضرية أخرى مثل العاطلين عن العمل، وربات البيوت، والعاملين في القطاع غير الرسمي، الذين يفتقدون إلى القوة النظامية للانقطاع عن العمل (كالدخول في إضراب مثلا)، بالنسبة لهؤلاء يصبح الشارع هو المجال الذي يتم فيه التعبير عن عدم الرضا.
ولذلك فإن هذا النوع من سياسة الشارع -بحسب الكاتب-أخذ يكشف عن منظومة من الصراعات، بين فرد أو حشد من الناس وبين السلطات، وهي صراعات باتت تتشكل ويتم التعبير عنها في الفضاء الفيزيقي والاجتماعي للشوارع.
كما أن سياسة الشارع هذه أخذت تحتل أهمية أكثر من ذلك، وخاصة في مدن الليبرالية الجديدة، أي تلك المدن التي تشكلت وفق منطق السوق. فعندما يتجول المرء في شوارع القاهرة، وطهران، وداكار، وجاكرتا في منتصف يوم عمل، يندهش من وجود أعداد كبيرة من البشر تمارس أنشطة في الشارع، وتعمل أو تتجول أو تقف أو تجلس أو تقود السيارات، أو تستقل الأتوبيسات والترام، وكل هؤلاء يمثلون السكان الهامشيين في الأساس.
لذلك برأي بيات، فإن هذا النمط من المدينة يمكن أن نطلق عليه (مدينة الداخل والخارج)، حيث يصبح عدد كبير من السكان خاضعا لسطوة الفقر والحرمان، الأمر الذي يجبره على أن يحيا حياته في الأماكن العامة وأن يكيف نفسه على ذلك.
ولذلك نجد هنا أن الفضاءات التي تقع خارج المنازل (الحواري الداخلية والحدائق العامة، والميادين والشوارع الرئيسية) تعمل بمثابة المعونات التي لا يمكن الاستغناء عنها للحياة الاقتصادية، ولإعادة الإنتاج الاجتماعي والتضامن لقطاعات عريضة من سكان الحضر، ومن هنا فإنها أخذت تشكل أرضا خصبة للتعبير عن المشاعر والعواطف المشتركة والآراء العامة للأفراد العاديين في تعبيراتهم وممارساتهم اليومية، والتي يتم التعبير عنها في الأماكن العامة كسيارات الأجرة ، والحافلات، والمحلات، والشوارع الجانبية والمظاهرات الجماهيرية في الشارع.
بعد ذلك يتطرق بيات، لسمات هذا الحراك طويل الأمد لملايين الأفراد المهمشين والذي يمكن وصفه على حد تعبيره بـ(الانتهاك اليومي لكل ما هو معتاد).
إن قوة اللاحركات لا تكمن في وحدة الفاعلين، التي يمكن أن تهدد بالانقطاع أو عدم اليقين أو الضغط من جانب الأطراف المعادية. بل تعتمد قوتها على قوة الأعداد الكبيرة أي أنها تعتمد على ما ينتج عنها من تأثير على معايير وقواعد السلوك السائد في المجتمع لأفراد يعملون الشيء نفسه بشكل دائم ومستمر.
وبرأي المؤلف، فإن قصة اللاحركات هي قصة الفعل الاجتماعي في أوقات الشدة، كما أن أهمية هذا المفهوم تكمن في قدرته على تجاوز الثنائيات الجامدة بين الإيجابي والسلبي، والفردي والجمعي، والسياسي والمدني، وجميعها ثنائيات محدودة الأفق، كما أنه يفتح إمكانيات جديدة لبحث الممارسات الاجتماعية غير المشاهدة، والتي يمكن أن تحدث تغييرا اجتماعيا كبيرا يكشف عن منطق الممارسة بين التجمعات المتفرقة والمتباعدة تحت ظرف الحكم التسلطي الذي تمنع فيه التجمعات الحرة والتواصل النشط.
(الحياة كسياسة: كيف يغير أناس عاديون الشرق الأوسط) كتاب هام يستحق المطالعة، فهو عمل قيّم نظرا لإسهامه المعرفي في حقل الحياة الاجتماعية المعاصرة في المناطق الحضرية في منطقة الشرق الأوسط. وهو أيضا مصدر ضروري للباحثين والناشطين الذين يسعون إلى الحصول على تفسير شامل وعميق لصراعات الناس المستمرة في الشرق الاوسط من أجل حياة أفضل في مواجهة الظروف الاجتماعية والاقتصادية القاسية ووحشية وقمع النظم الديكتاتورية.
اضف تعليق