لا يمكن إخفاء المحاربة التي يتعرض لها الفرد المبدع، من الجماعة!!، فهناك حالة من التهميش يتعرض لها المثقف المبدع، تدور رحاها في الخفاء وفي العلن احيانا، وهناك من يقول أن الوثوف الى جانب الابداع الفردي أمر في غاية الاهمية، وقد عزا المهتمون بهذا الأمر الى أن جميع الخطوات والابتكارات والابداعات التي أسهمت في تطوير البشرية، تعود الى الابداع الفردي.
ويأتي أصحاب هذا الرأي بحجج من التاريخ البعيد والقريب، ومن التجارب التي خاضها المبدعون في العلم والآداب والفنون، ومثال ذلك ما حققه توماس أديسون في مجال الطاقة الكهربائية، أو ما حققه نيوتن في مجال الفيزياء وما حققته من تطور مذهل في حياة الانسان، ومع ذلك كانت هناك مصاعب كبيرة وعقبات هائلة قد وضعتها الجماعة بوجه هؤلاء، وينطبق ذلك على تام بالنسبة للمثقف الفرد الذي يحاول أن يتميز عن أقرانه في ابداعه.
ومع كل ذلك يحرص بعض المفكرين والمثقفين والمصلحين بصورة عامة، على دعم الاستقلالية الفردية، لسبب بسيط، كونها تشكل وسيلة مضمونة لتحريك طاقات المثقف، ونقلها من حالة السبات الى الحركة!، وإظهار مواهبه وتحويلها من حالة الكمون الى حالة الفعل الملموس الذي يخدم الفرد أولا، ثم يصب في الصالح العام، لأن المثقف جزء من الكل الذي يحاول بشتى الطرق، الى إلغاء الجهد الثقافي الفردي ودمجه بحركة ثقافة المجتمع عامة.
وهذا الصراع بين المثقف الفرد وبين الجماعة ليس جديدا، ولا يمكن أن يتوقف عند حد معين، اذ على مدى التأريخ البشري حدث ويحدث صراع واضح بين الفرد المثقف، وتطلعاته وآماله وسعيه نحو إثبات الذات والموهبة من جهة، وبين الجماعة وسعيها المحموم نحو كبح الذات النافرة وتعويقها بضوابط واعراف وسنن تحد من قدرات الفرد المثقف واستقلاليته.
بناء المنهج الشمولي للحياة
إن السبب الاساس الذي يقف وراء هذا السلوك الجماعي، هو محاولة ضمان انصياع المثقف الى نفوذ الجماعة، وقد خلق هذا الصراع المستدام، نوعا من التفوق لصالح الجماعة على حساب الفردية لاسيما في عالمنا العربي، ما أدى بالنتيجة الى شيوع النمط الواحد في المظهر والجوهر، في المأكل والملبس، في اليقظة والنوم، في الكلام والصمت، في المتناقضات والترادفات كافة، وهذا ما يشكل دلالة واضحة على هيمنة الثقافة الجماعية على الفردية، لدرجة أنها تحولت الى منهج حياة شمولي، لا يتيح للمثقف الفرد أن يبدع خارج ما تريده الجماعة.
وهذا بطبيعة الحال يمثل معضلة ازاء المثقف المبدع، ويعمل على كبح النشاط الفردي الابداعي بصورة عامة، لهذا نشأ المحيط العربي متشابها في التفكير، أو أنه لا يزال ينحو الى نمطية الثقافة، ويخشى التنوع، بل ويرفض التجديد، إذا لم يشن علي الفرد المثقف المبدع حربا شعواء، لكبح جهوده التي يحاول من خلالها أن يثبت قدرته الفردية على التميّز والتجديد.
علما أن هذا السلوك الجمعي يصب في صالح النمطية، واذا كنا نغفل ملاحظة مثل هذه الظواهر في مجتمعنا العربي كوننا نعيش في المعمعة وغبارها لايتيح لنا صفاء الرؤية والتأشير، فإن من يراقب العرب من بعيد وبدقة يستطيع أن يلاحظ إزدهار ثقافة النمط الواحد بينهم، بل ربما يشكل العرب الحاضنة الأولى لثقافة النمط المتشابه.
وهذا ما نستشفه من رؤية الكاتب الياباني نوبواكي نوتوهارا في كتابه الذي صدر مؤخرا تحت عنوان (العرب من وجهة نظر يابانية/ ترجمة: منى فياض) يقول نوبواكي في كتابه هذا: (ان العالم العربي ينشغل بفكرة النمط الواحد، على غرار الحاكم الواحد. لذلك يحاول الناس ان يوحدوا اشكال ملابسهم وبيوتهم وآرائهم. وتحت هذه الظروف تذوب استقلالية الفرد وخصوصيته واختلافه عن الآخرين. ويغيب مفهوم المواطن الفرد وتحل محله فكرة الجماعة المتشابهة المطيعة للنظام السائد).
التكرار و الاجترار الأجوف
هنا تبدأ محنة المثقف العربي فعلا، حيث تتصادم مع ثقافة لا ترغب بالتنوع وربما ترفض خروج الفرد عن طاعة الجماعة، حتى لو كان السبب موهبة لا تعرف السكون ولا تقبل التأطير بأسوار العرف الجماعي، وهكذا تسود ثقافة النمطية والاعتياد و الآلية التي تقتل الابتكار وتؤلِّه الرتابة والتكرار الاجوف واجترار الحقائق بكسل وخمول ثقافي متواصل.
لذلك يؤشر نوبواكي في كتابه نفسه، هذا بعض الفروقات بين اليابانيين والعرب فيقول: (في مجتمع مثل مجتمعنا نضيف حقائق جديدة، بينما يكتفي العالم العربي باستعادة الحقائق التي كان قد اكتشفها في الماضي البعيد، والافراد العرب الذين يتعاملون مع الوقائع والحقائق الجديدة يظلون افرادا فقط، ولا يشكلون تيارا اجتماعياً يؤثر في حياة الناس).
وهذا دليل قاطع على ما جاء في صدر هذا المقال، عن أن هناك حربا تشنها الجماعة على الافراد من أجل تذويب الجهد الفردي الخلاق في النمط الثقافي المحافظ للجماعة، ولا غرابة في ذلك قط، فالجماعة تشكل سلطة على الفرد لترغمه على الانضمام إليها، ليشكل بدوره خلية خاضعة نمطية لا تجرؤ على التغريد خارج السرب.
لهذا نشأ الصراع بين الفرد العربي بصفته متمرد ينزع الى التنوع الحيوي، وبين الجماعة بصفتها سلطة ثقافية سياسية تنزع الى النمطية والسكون خوفا على منافعها، ونتيجة لهذا الصراع تشوّه الفرد وأصبحت الكثير من القيّم الإنسانية تصب في صالح الجماعة لاسيما ما يتعلق بالسلطة، وصار العرب لا يحافظون على كل ما هو ملكية عامة، وكأن الفرد ينتقم من السلطة القمعية بتدمير ممتلكات وطنه، وهو يظن بأنها لا تقع ضمن الملكية العامة.
لذا هناك حاجة كبيرة، لدعم التفكير الفردي على مستوى المثقف والانسان عموما، وعدم محاربة الابداع الفردي، والكف عن محاولة دمجه بالعام قسرا، على أن يكون هناك منظومة حياة تضاعف من حالة الانسجام بين الفردي والجماعي، ولا تكبح سعي المثقف نحو التميز والابداع، بل لابد من دعمه وتوفير مستلزمات تقدمه، لأن الناتج الابداعي الفردي للمثقف، سوف يعود في المحصلة على الجماعة بالفائدة، من حيث التطور والاستقرار والتجدد.
اضف تعليق