ما هو الصحيح إذًا؟، أن يتم القضاء على الفقر المعنوي، ولكن كيف يتم ذلك ولماذا؟، الشق الثاني من السؤال، لكي تتعادل الكفّتان (المادي والمعنوي)، ويتم ذلك من خلال تربية الإنسان لنفسه معنويا وقيميا، وكذلك يجب أن ينهض المجتمع في الجانب المعنوي، فهنالك سبل معروفة على الفرد والمجتمع أن يمضي إليها، ويتشبث بها...
المعنوي أو المعنويات مفردة تمّ اشتقاقها من المعنى، وهي تعني أن لكل شيء تشكيلان، التشكيل الأول هو المادي، فالإنسان مثلا مخلوق ماديا من الجسد، أما التشكيل الثاني فهو المعنى أو المعنوي، وهو التشكيل الثاني للإنسان، وتمثله الروح، وروح الإنسان هي جوهره المعنوي، أما جسده فهو شكله المادي.
عادة يهتم الإنسان الفرد بجسده، وقد يفوق اهتمامه بالجيد أكثر بكثير من اهتمامه بالمعنى أو الروح، فحين يعتلّ أحد أعضاء جسد الإنسان، نراه يُسرع في مراجعة الطبيب مستنجدا به طالبا الدواء الذي يعيد جسده إلى ما كان عليه قبل المرض، لكن حين تعتلّ معنوياته وتُصاب روحه بالضمور والاضمحلال، عادة ما يتعامل مع الأمر ببرود وربما بلامبالاة.
هذا التعامل الفردي مع الجسد (المادي) والروح (المعنوي)، ينطبق أيضا على الجماعة أو المجتمع، فهناك مجتمعات تُغرَم بالمادة وتنشغل بها كثيرا، بل تغوص في المادة حد الاختناق، وفي نفس الوقت تهمل المعنويات إلى حد كبير، فيحدث الاهتزاز والخلل وفقدان التوازن بين المادي والروحي الذي يدخل في إطاره (الفكر، المعنى، القيم.... إلخ).
تداعيات الانشغال بالمادية
النقص المعنوي عند الفرد يتسبب له بمشاكل كبيرة، قد لا يتنبّه إليها ولا يعيرها الاهتمام المطلوب، على العكس من اهتمامه وانشغاله الشديد بالمادي، وهذه مشكلة يعاني منها الأفراد، مثلما تعاني منها الجماعات أو المجتمعات، وفي حال تخلخل الجانب الروحي عند الفرد والمجتمع، فإن معنوياته تضعف وحالته النفسية تسوء وينعكس ذلك على حياته وعلى إنتاجيته من النواحي كافة، فنكون أمام فرد ضعيف ومجتمع متلكّئ.
ولا يمكن معالجة هذه الحالة إلا عن طريق رفع معنويات الفرد أو المجتمع، ومصطلح رفع المعنويات هو مصطلح شائع جدّاً، ويعني جعل الأشخاص الآخرين أو جعل النفس أسعد وإضفاء البهجة والمرح على الأجواء المحيطة، كما أنّه يعني تخليص النفس أو الناس من القلق عن طريق بعض الممارسات أو بعض الكلمات التي تحقّق هذا الغرض، وهو أيضاً يعني جعل الأشخاص يشعرون بمزيد من الأمل.
ما الذي نعنيه من جملة (الفقر المعنوي)؟، إن المعني من هذا السؤال، هو تنبيه الأفراد، ومن ثم تنبيه المجتمعات، عن طريق النخب التي تقوده، إلى خطورة هذا النوع من الفقر، فالخطر الذي يتهدَّد حياة الإنسان لا يتمثل بنقص الأموال وحدها، مع العلم أن الإنسان يستميت ويجتهد ويبذل كل شيء لكي لا يتعرض لخطر نقص الأموال.
لكنه لا يتحرك بنفس الاندفاع والحماس والشعور بالخطر، إذا واجه نقصا في الجانب المعنوي، وهناك من أخذته المادة في أحضانها، لدرجة أنه لم يعد يتذكر الجانب الثاني (المعنوي) الذي يشكل الكفة الثانية من ميزان الحياة المعتدلة المستقرة.
فلا فائدة من حياة تقوم على كفّة المادة وحدها، بل لابد أن تقابلها وتوازنها الكفة الروحية المعنوية، حتى يعيش الناس حالة الاستقرار والتوازن المادي الروحي، هناك في بلدان كثيرة تطور عمراني مادي هائل وسريع ومتطور، يقابله خمول وضمور وهشاشة روحية معنوية خطيرة، تسلب من هذه الأمة أو المجتمع سطوعها أو طابعها الحضاري.
موت حضارة الأبراج الشاهقة
يتصوَّر كثيرون أن الحضارة تتجسد في العمارات وناطحات السحاب والأبراج الشاهقة، لكن الأمر ليس كذلك، فلابد أن يكون للجانب المعنوي حضوره القوي والفاعل والمؤثر، سواءً عند الأفراد أو عند المجتمعات، ولا فائدة بصعود العمارات وناطحات السحاب والشوارع العريضة إذا كان هناك فقدان للجانب المعنوي، ولا نخطئ إذا قلنا إن النجاح المادي (العمراني وسواه)، يعتمد على رصانة الجانب المعنوي الذي يضم في طياته (الفكر الرصين، والقيم العالية).
في بعض الدول العربية هناك تطور عمراني كبير وواضح، وهو مثير للإعجاب حين تقع عليه الأبصار (أي أنه عمران يسرّ العين)، لكن ما يسيء لهذا النوع من التطور هو التراجع المعنوي (الفكري القيَمي) في تلك البلدان نفسها، وعلى مستوى الأفراد يحدث الشيء نفسه، فهناك فرد يعبد المادة وهي تستعبده بدورها، فنجد ضحالة الفكر لديه وفقدانه للقيم التي تجعله إنسانا جيدا، بسبب حالة الفقر المعنوي التي يعاني منها.
ما هو الصحيح إذًا؟، أن يتم القضاء على الفقر المعنوي، ولكن كيف يتم ذلك ولماذا؟، الشق الثاني من السؤال، لكي تتعادل الكفّتان (المادي والمعنوي)، ويتم ذلك من خلال تربية الإنسان لنفسه معنويا وقيميا، وكذلك يجب أن ينهض المجتمع في الجانب المعنوي، فهنالك سبل معروفة على الفرد والمجتمع أن يمضي إليها، ويتشبث بها، ونعني بذلك كل الأمور التي من شأنها الموازنة بين كفتيّ (المادي والمعنوي)، وهذا لن يتم إلا في حالة النجاح بالقضاء على الفقر المعنوي.
اضف تعليق