شبكة النبأ: الدولة وحدها تحتكر العنف وادواته ضد الاخرين، وهؤلاء الاخرون هم مواطنوها، وهو احتكار مشروع من اجل حفظ النظام العام وانفاذ القوانين.
قلت مواطنوها ولم اقل رعاياها، لان العنف في تلك الحالة سيخرج عن شرعيته وسيمارس من اجل جلب الشرعية للدولة امام اولئك الرعايا، ولايكون ذلك الا عبر الاخضاع من خلال المزيد من العنف.
هذا التبرير لاستعمال العنف وحصر شرعية ممارسته بالدولة ربما يعود الى ميكافيلي الذي نصح كل أمير بضرورة الجمع بين القانون واستعمال القوة والعنف، فلا حكم إلا لمن يستطيع الجمع بين القوة، والمكر، والخداع.
ويتفق معه السوسيولوجي الالماني ماكس فيبر من خلال تاكيده، أن الدولة باعتبارها تجمعًا سياسيًا غير قابلة للتعريف إلا من خلال العنف، فالعنف المادي يعتبر الوسيلة الوحيدة التي تسمح للدولة بممارسة سيادتها، وبدون العنف ستعم الفوضى. كما يؤكد بأن الدولة تملك الحق في استعمال العنف، فهو إذن عنف مشروع لا يمكن أن يمارسه أي فرد دون موافقة الدولة.
لكن اخرين في نظرتهم للدولة قد طوروا مفاهيم وتصورات يكون العنف فيها في المرتبة الثانية او ادنى من ذلك، عن طريق ما يسمى بالاكراهات الزجرية، يتقدم على ذلك كما يرى بول ريكور أن حقيقة الدولة تتجلى في قدرتها على الجمع بين ما هو عقلاني واقتصادي.
فالعقلانية تجعل الدولة تعتمد على نوعين من المؤسسات: مؤسسات تكوينية وأخرى زجرية. وذلك ما يعني أن الدولة تلعب دور المربي من خلال المدرسة والجامعة ووسائل الإعلام، إلا أنها تعتمد كذلك على القوة وتضطر إلى اللجوء إلى إكراهات زجرية.
في الطروحات الجديدة للدولة، يدعو ميغدال صاحب كتاب (الدولة داخل المجتمع) إلى النظر إلى الدولة كجزء من المجتمع تؤدّي دورها الخاص إلى جانب تشكيلات اجتماعية أخرى تقوم بدورها هي الأخرى، من دون أن تهيمن أيّ من هذه التشكيلات، دولة كانت أم قبيلة أم طائفة، على أخواتها إلا في حالات استثنائية.
فالدولة تساهم في صياغة المجتمع تماماً كما يساهم المجتمع في صياغتها. والمجتمع هو بدوره مزيج من التشكيلات الاجتماعية التي تدخل في ما يشبه المفاوضات المستمرّة مع الدولة حول القواعد التي تتحكّم بسلوك الأفراد الذين ينتمون عادة، وفي الآن نفسه، إلى أكثر من تشكيل اجتماعي.
يذهب الدكتور عبد الاله بلقزيز، في بحث له حمل عنوان (القوة والعنف والشرعية) الى إن لجوء السلطة إلى ممارسة القهر السياسي ليس تعبيراً عن القوة - أو عن فائض في القوة- لديها كما قد يظن، وإنما هو بالعكس تعبير عن مقدار ما تعانيه من عجز في القوة.
وهذا معناه، من وجه آخر، أن معيار قوة الدولة ليس مادياً فحسب وفي جميع الأحوال (أو في المقام الأول) إلا إذا عنى الوجه المادي من القوة ما ليس ذا صلة بالعنف وأدوات العنف من السجايا التي تكون بها دولة ما قوية وما في أعين مواطنيها وجديرة باحترامهم وولائهم لها. بل إن معيار القوة شامل سائر العناصر التي تكون بها شوكة الدولة وهيبتها ومهابتها.
إذ القوة هنا هي مجموع القدرات الشرعية التي تملكها الدولة ويسلم لها بها المجتمع (بما فيها العنف الشرعي)، وقد تكون جوانبها المادية الأقل أهمية، إذ كان معناها ينحصر فقط في نطاق ما هو أمني. بل اننا لا نتزيد ولا نغالي حين نذهب الى القول إن القوة الحقيقية للدولة هي القوة غير المادية، هي قوتها الاخلاقية وقوتها الانجازية، وهي هي التي تحقق بها الاستقرار السياسي والأمن الاجتماعي وتضمنهما.
من تحصيل الحاصل، في علم السياسة المعاصر وفي تجربة النظام الديموقراطي الحديث، أن الدولة وحدها الطرف الذي يعود اليه الحق الحصري في احتكار القوة والعنف وأدواتها وممارستهما على نحو شرعي (لحفظ المصالح العمومية أو النظام العام)، غير أن احتكار العنف شيء وممارسة القهر شيء آخر مختلف. حين تحتكر العنف، تتصرف كدولة مجردة، تمثل المجموع الاجتماعي والحق العام. أما حين تمارس القهر، فلا تتحول فقط الى دولة تسلطية، بل الى سلطة في يد فريق من المجتمع ضد آخر فتتخلى عن كونها دولة.
يجب ان لايغيب عن اذهاننا ان هناك فرقا كبيرا بين احتكار الدولة (العنف) وبين ممارستها إياه من دون ضابط. فالدولة حين تحتكر هذا العنف الممأسس، تكون قد أنجزت واحدة من وظائفها «الطبيعية» وهي تنظيم المجال الاجتماعي وحفظ الأمن الاجتماعي وتجنيب الصراعات الاجتماعية احتمالات المواجهة بين ذوي المصالح المختلفة والإيديولوجيات المتباينة. أما حين تمارسه، وخاصة بغير ضابط شرعي او قانوني، فهي تغامر بتعريض شرعيتها للتصدع، ومعها الاستقرار والأمن والسلم المدني للانهيار.
في كتابه "في العنف" يشير فرنسيسكو هيريثير إلى أنّ الفئات الحاكمة المستبدة طوّرت شكلاً جديداً ومتطرفاً من العنف يمكن وصفه بالقسوة. وبهذا المعيار تمثل القسوة حالة نوعية حتّى بالقياس إلى عنف الحروب. ومثال على ذلك، أنّه في الحرب قد يكتفي الجيش أو القائد المحارب بتدمير دفاعات العدو لتسهيل إلحاق الهزيمة به. أما في حالة القسوة، فلا يكتفي الجيش أو القائد المحارب بهزيمة العدو، بل يتطلّع إلى تدميره وإفنائه. وكثيراً ما لا يكتفي المستبدّ الجائر باعتقال أو محاكمة المعارضين السياسيين والاكتفاء بسجنهم، وإنّما يوغل في قتلهم والتمثيل بضحاياه وتحطيمهم ذاتياً.
وهو ما رأيناه في الكثير من الانظمة العربية وفي بلدان اخرى، منها النظام العراقي والنظام السوري، وهو ما اشار اليه ايضا كنعان مكية في كتابه الشهير قسوة الصمت.
إن ممارسة القهر تعبير عن عجز فادح في القوة لدى السلطة والدولة وليس تعبيراً عن القوة أو عن فائضٍ في القوة لديها كما يُعْتَقَد. الدولة القوية، المطمئنة إلى قوتها في الداخل، لا تلجأ إلى ممارسة القوة العمياء، أي القهر، لأنها لا تخاف المجتمع ولا تخشى على نفسها من حَرَاكِهِ السياسيّ. وما ذلك الشعور منها بعدم الخوف لإفراط في الثقة بقوتها وبقدرة تلك القوة على ممارسة ردع في الداخل، وإنما لثقتها بأنها تتمتع بالشرعية وبالمشروعية، وبأنها دولة «لجميع مواطنيها المتساوين أمامها وأمام قوانينها.
ثمة تلازم، إذاً، بين القوة والشرعية (وخلافه التلازم بين القهر وفقدان الشرعية). يرتفع معدّل قوة دولة كلما ارتفع معدل شرعيتها في وعي مواطنيها، ويُصيب قوتها هزال كلما دب شرخ في شرعيتها.
حين تلجأ دولة إلى ممارسة هذا النحو من السلطة القهرية، مثلما هو حاصل في أكثر البلاد العربية، فهي بذلك تفصح عن أزمة الشرعية فيها وتكشف عن مقدار ما تعانيه من غياب المشروعية السياسية للسلطة.
القوة الشرعية للدولة هي ما يؤسس للدولة مشروعيتها السياسية. أما القهر، ففعل من أفعال العدوان على الشرعية، وهو - لذلك- ينال من المشروعية السياسية للقوة التي تمارسه، وقد يفتح باباً أمام الانقضاض على الدولة والشرعية!.
اضف تعليق