تغيب الكثير بل لعله كل المعلومات عن الداخل السعودي نتيجة إجراءات التعتيم الثقافي والإعلامي في هذا الداخل الذي لازال يجهل عنه العالم الكثير، وحين أقول العالم لا أعني الدول في منظومتها الاستخبارية التي تتزود بالمعلومة، لكن نشرها أو إخفائها يظل خاضع لمنطق المصلحة السياسية.
فقد نشرت قناة الحرة الأمريكية قبل فترة اتصالا مباشرا مع ثلاثة من بنات الملك عبد الله بن عبد العزيز المحتجزات في احد القصور الملكية في جدة بأمر من والدهن الملك وتحدثن فيه عن الاعتقالات الجارية في الدولة السعودية وما يجري في المعتقلات السعودية وعن مرض والدتهن المفبرك من قبل الملك عبد الله، وهكذا تكون المعلومات المنشورة عن الداخل السعودي رهينة مصلحة سياسية لأحدى الدول الكبرى.
ورغم إن عالم الانترنيت ومواقع التواصل الاجتماعي قد كشفت الكثير عن أسرار الدول وأحوال ووقائع الشعوب في العالم وحتى من الداخل السعودي، لكن يبدو إن هناك الكثير مما يجهله العالم عن هذا الداخل وقد بثت قبل فترة قناة الـ (بي بي سي) برنامجا مسجلا عن المنطقة الشرقية، قامت بتسجيله عن الداخل السعودي إعلامية سعودية لصالح قناة البي بي سي، استطاعت المجازفة وتصوير ما يجري في هذه المنطقة من احتجاجات شعبية يقوم بها سكان المنطقة ضد سياسات الدولة السعودية اللا عادلة تجاههم، وقد تم تسجيل البرنامج بشكل سري لم تعلم به السلطات السعودية. وكانت المراسلة الإعلامية حريصة على الكاميرا كما ظهر في البرنامج وينتابها الخوف من سقوطها بيد امن الدولة وفق قولها.
وتعاني المنطقة الشرقية التي تسكنها أغلبية شيعية من التهميش والإقصاء وعدم الاعتراف الديني الرسمي بها من جانب الدولة السعودية، وكان هذا هو محور موضوع البرنامج على قناة الـ بي بي سي، وقد أظهرت بعض الصور القتلى الذين سقطوا من أبناء هذه المنطقة على يد قوات الأمن السعودي، وهي تدخل في جملة الأشياء التي تغيب عن العالم وفي جملة إجراءات التعتيم الثقافي والإعلامي الذي تمارسه الدولة، وهناك جزء أساسي في إجراءات التعتيم الثقافي هذا تقوم به المؤسسة الدينية الوهابية في السعودية من اجل أن تترسخ قناعة العالم، والعالم الإسلامي حصرا، أن أرض المملكة هي ارض الإسلام ـ السني، وأنها خالية من الشرك الذي توصم به مذاهب الشيعة وبقية فرق الإسلام، وهو الشرك الذي تقوم بالحرب عليه في ادعائها مما يمنحها ذاك الوقع المؤثر في نفوس المسلمين السنة في العالم الاسلامي، باعتبار الدولة السعودية زعيمة العالم الإسلامي، وهو الموقع الذي ظلت تطمح اليه الدولة السعودية وتمارسه، وهو سر خلافها والدولة الايرانية الحديثة التي طرحت أيضا نفسها زعيمة للعالم الإسلامي، وهو ما يدعو الدولة السعودية أيضا إلى ذلك التعتيم الإعلامي فضلا عن الثقافي على هويات الفرق والمذاهب الإسلامية الموجودة في المملكة.
والشيء الملاحظ بخصوص الخارطة الدينية ـ المذهبية في الدولة السعودية، ان المنطقة الجنوبية والشرقية والغربية تتشكل أو تتكون من مجتمعات إسلامية تنتمي إلى مذاهب وفرق إسلامية متعددة، فالمنطقة الجنوبية (عسير، ونجران، وجازان) يتجاور فيها المذهب الاسماعيلي والمالكي والشافعي والوهابي والزيدي، لكن أغلبية المنطقة من إتباع المذهب الشيعي ـ الاسماعيلي وأما المنطقة الشرقية (الاحساء والقطيف) ونسبة السكان فيها 14% من مجموع السكان في الدولة السعودية، وهم في أكثرهم شيعة أمامية يشكلون الكثافة السكانية في المنطقة، وأما المنطقة الغربية (الحجاز) ونسبة السكان فيها 32% من مجموع السكان فانه يغلب عليها المذهب المالكي والشافعي إضافة إلى الشيعة الزيدية والأمامية والفرق الصوفية، بينما تتكون المنطقة الوسطى (نجد) من المذهب الوهابي حصرا ولا يوجد فيها من ينتمي إلى مذهب إسلامي آخر وتبلغ نسبة السكان فيها 32% في المجموع العام لسكان المملكة، وهو ما يحيلنا إلى فكرة أن مناطق الدولة السعودية باستثناء المنطقة الوسطى تعيش أجواء التسامح وقبول الآخر، بينما تعيش منطقة نجد الوهابية أجواء اللا تسامح والتشدد والتطرف الذي لا يسمح للأخر ـ الديني والمذهبي أن يعيش في هذه المنطقة نتيجة سياسات الحرمان الديني الذي تمارسه المؤسسة الوهابية في المناطق الخاضعة لسيطرتها.
ومن صور التعتيم الثقافي ما أدركته من خلال قراءة كتاب حمل عنوان (نجران، نجرامتروبوليس ومدخل إلى نجران الحديثة) لمؤلفه السعودي محمد أبو ساق وهو من أبناء منطقة نجران، وقد أفاد كثيرا في الكشف عن جوانب مهمة من تاريخ جنوب الدولة السعودية الحديث.
فقد بدت نجران لها تاريخ اجتماعي خاص بها، وتاريخ سياسي لم يعلن، يتناوله الكاتب بلغة تحليلية تكشف عن العناصر الفاعلة في هذا التاريخ نتيجة الاختلاف المذهبي بين هذه العناصر الفاعلة والدولة السعودية. وحين يتحدث عن التاريخ الثقافي لمنطقة نجران فان المتلقي يستشف بأنه تاريخ حافل بالثقافة والأدب، فقد ذكر المؤلف أن الكتابة والتدوين كانت منتشرة في نجران قبل دخولها في تبعية الدولة السعودية في العام 1934، وهي ملاحظة مهمة تجاه مجتمع تقليدي قياسا إلى مجتمعات تقليدية عاشت في هذا العصر في هذه المنطقة، لكنه لايحدد العناصر الدينية والمذهبية الفاعلة في هذه الثقافة، ويستشف المتلقي استنباطا أنها العناصر الإسماعيلية، ولاسيما وان سكان غالبية منطقة نجران هم من اتباع المذهب الاسماعيلي، وقد حاول الكاتب التعتيم على مذهب أكبر قبائل نجران وهم قبائل اليامين الذين يشكلون شعب نجران، وقد أشار الكاتب إلى أنهم يختلفون في مذهبهم عن جيرانهم نقلا عن احد الباحثين، لكن دون أن يسمي مذهبهم بل يقصر المذهب الاسماعيلي على فرع قبلي أخر مهم أيضا وهم المكارمة الذين نزحوا إلى نجران قبل ثلاثة قرون وفق قوله، ورغم أنه ذكر تأثيرهم المهم في الشأن الديني في المنطقة وأن نجران كانت تشكل قبل (280) سنة من تاريخنا المعاصر مرجعية دينية كبرى للإسماعيلية ألا أن الكاتب لايكاد أن يذكر شيئا عن اسماعيلية اليامين أو قبيلة يام التي ترجع بأصولها العرقية إلى قبيلة همدان اليمانية. ويام هي شعب نجران ويبقى مذهبهم مجهول في دراسته أو معتم عليه، وقد يكون دافع الكاتب شيئا يتسامى فوق الطائفية وهو شيء نبيل ومتسامحا به، لكن العادة جرت على ذكر اديان ومذاهب المجتمعات التقليدية عند الكتاب والباحثين الميدانين والاجتماعيين، ولعل دخول الكاتب في سياقات الدولة السعودية السياسية هو مامنعه من ذكر الواقع الأثني ـ المذهبي لمنطقة نجران.
فقد بدا الكاتب متبنيا لسياسة الدولة السعودية بشكل تام ويظل الهاجس السعودي ـ الوهابي في إخفاء أو إلغاء الاثنية ـ المذهبية لصالح أفكار المؤسسة الوهابية المتشددة، وتسيطر بقوة على كل ما يكتب عن المملكة حول الخارطة الدينية ـ المذهبية في مقارباتها الاجتماعية والثقافية وله أسباب استراتيجية للمؤسسة الدينية- الوهابية.
ونكتشف تلك الاستراتيجية بوضوح في تحليل مضامين كتاب آخر ينحو بهذا الاتجاه، وهو كتاب (الامراء اليزيديون، عسير ـ تاريخ لم يكتب) لمؤلفه السعودي علي عوض آل قطب، وينتهج في كتابه محاولة إلغاء عسير قبل قدوم (الدعوة الوهابية) وفق تسميته، مما يكشف عن تبنيه المنهجي لهذه الحركة المتطرفة حين يعبر عنها بلفظ (الدعوة) وهو الاستعمال التقليدي لإتباعها ومؤيديها من كتاب ورجال دين سعوديين وغيرهم، ويعلل إلغاء عسير ذلك بقوله ان المادة العلمية عن تاريخ عسير شبه معدومة لقلة المصادر وفقدانها، وهو يقرر ان تاريخ عسير قد بدأ مع (الدعوة) الوهابية وبعد وصولها إلى عسير فلا تاريخ لعسير قبلها، ويذكر الكاتب إن هناك كتابان عن عسير بعد ظهور الوهابية فيها وهما مؤلف العجلي (الظل الممدود) ومؤلف الحفظي (نفح العود) وقد ذكر إنهما عمدا إلى تأسيس كتابتهما التاريخية مبتدئين ببلوغ الدعوة من غير شرح او وصف للفترة السابقة وفق قوله.
وذكر أيضا أن الطابع اللغوي العنيف يميز ذلك الكتابين تجاه الفترة السابقة، ويقرر الكاتب انها تستمد هذا العنف من حمولات النسق الفكري (للدعوة) الوهابية، وتبدو استراتيجية الحركة الوهابية في التعتيم الثقافي والتاريخي على كل ما سبقها في ارض الجزيرة واضحا في مقولة ال قطب (أن إتباع الدعوة يرونها ليست دعوة إصلاحية تغير من نمطية الارتباط بالخالق آنذاك بل هي إسلام بعد جاهلية وإيمان بعد كفر) اذا قوله هذا يبيح إلغاء تاريخ عسير لان الغائه جزء من إلغاء الجاهلية وإلغاء الكفر لأنه تاريخ عسير قبل الدعوة الوهابية، ويفسر الكاتب بهذا ما صنعه الوهابيون عند دخولهم المدن في الجزيرة وخارجها بإحراقهم الكتب أو حملها الى الدرعية لغرض إحراقها وقد فعلوا ذلك بعسير أواخر السبعينات من القرن الرابع عشر الهجري حين أغار احد شيوخ الوهابية على مساجد عسير وأحرق كل ما فيها من مخطوطات بما فيها نسخة من القرآن الكريم، وخاف الناس وتخلصوا من كل كتبهم القديمة وفيها ضاع تاريخ عسير، بل عمدوا إلى إضاعته عمدا لأنه لا تاريخ للجزيرة وما حولها قبل (الدعوة) الوهابية، وقد ألقت بظلالها تلك الاستراتيجية على كل ما يكتب عنها أو فيها ومنها كتاب (عسير تاريخ لم يقرأ) وهو تاريخ ظل غامضا وغير معروف بتفاصيله رغم قرب عهده، مما يوحي أن الكاتب يحاول إخفاء خصوصية دينية واجتماعية وسياسية من تاريخ عسير وقد نجد ذلك في كون مجتمع عسير وتاريخه شيعي ـ اسماعيلي مما أقتضى وفق الاستراتيجية الوهابية كل ذلك التعتيم والتضليل وفيه يفسر مافعله شيوخ الوهابية في حرق واتلاف كل المخطوطات والكتب في مساجد عسير التي يبدو أنها اسماعيلية الطابع والمضمون والمذهب.
انها حقا استراتيجية متأصلة في فكر الحركة الوهابية في عمليات التعتيم الثقافي والإعلامي.
اضف تعليق