لأن البناء الثقافي في أي مجتمع، يعتمد على مجموعة عناصر ومفاصل، فان البعض ربما يشكل عليه أمر التفضيل وكيفية تقديم هذا على ذاك، ومن المهم ومن الأهم...؟ مثل جسد الانسان تماماً؛ فقد جاءت خلقة الله – تعالى- وهو الذي خلق الانسان في أحسن تقويم، متكاملة بمعنى الكلمة، فلا غنى للإنسان عن أي جزء – ولو بسيط- من بدنه، من أظافر يده وشعرات رأسه، الى الأطراف والجوارح والحواس الخمس وسائر الاجهزة العاملة والخلايا داخل جسم الانسان. فكل شيء عنده مهم، واذا ما نقص منه شيء، يشعر بنوع من العوق.
وكما أن التفاضل في أنحاء جسم الانسان، يقفز في ذهن الانسان لحظة وقوع خلل معين في وظيفة بإحدى هذه الانحاء، فان التفاضل في أولويات البناء الثقافي تقفز أمام الانسان الفرد والمجتمع عندما يواجه مشكلة أو ظاهرة معينة تطفو على السطح، فيحصل الخلاف بين داعٍ لمعالجتها وبين راغب بترحيلها الى وقت آخر أمام أولويات أخرى مثل العلم والمعرفة، او الوعي بكل شيء وللجميع، بدعوى محاربة الجهل – مثلاً- كما هناك من يتحدث عن الحرية، وأنها اساس كل شيء، فاذا كانت مضمونة ضمنّا السلامة في كل شيء...!
وهناك رأي آخر، يتحدث عن أولوية الاخلاق والآداب في منظومتهما الشاملة، من عادات وسلوك وفضائل، وأنها الأهم في حياة الانسان والمجتمع، ودليلهم على ذلك، أن أي اهتزاز في هذه المنظومة عبر تجاهلها او التنكّر لها بأي شكل من الاشكال، فانها تحدث اهتزازاً مماثلاً في النفوس، فترى الناس، وبدافع الفطرة، يدينون حالات التبرّج لدى النساء – مثلاً- او الميوعة لدى الشباب، وكذا انتشار حالات مناقضة للفضيلة، مثل الكذب والتدليس والأنانية والتجاوز على حقوق الآخرين وغيرها من الرذائل.
نعم؛ العلم والمعرفة والحرية وغيرها من عوامل حياة الأمم والشعوب، تعد من الأولويات في البناء الثقافي، والشعوب المتحضرة والمتقدمة، انما حققت انجازاتها بهذه العوامل وغيرها، فنهضت وغيّرت وتقدمت، لكن لا يلغي هذا دور العامل المحرّك والموجه في المسيرة، مثالنا في ذلك؛ السيارة الحديثة وفي سائقها، فوجود هذه الوسيلة النقلية الحديثة والمتوفرة على كل وسائل الراحة والفائدة الكبيرة، كما استخدام الانسان لهذه الوسيلة وتنعّمه بها، لن يكون نهاية القضية، وإلا لما عانى الناس في كل مكان، من حالات الطيش لدى البعض، والتجاوز على القانون وحقوق الآخرين لدى البعض الآخر. فمن الذي يضبط السائق في الشارع ويجعله مفيداً لنفسه وللآخرين؟ ربما يسارع البعض الى تقديم القانون ليكون الرادع لأي مخالفة والضابط لأي سلوك سيئ ومخالف لقوانين المرور، بما يضمن سلامة الجميع، لكن مع إقرارنا بأهمية هذا الدور وفاعليته، في نفس الوقت يعلم الجميع مدى الهشاشة التي ربما يصاب بها القانون على هذا الصعيد تحديداً، سواءً من خلال تصرفات البعض عندما لايجدون الاشارات الضوئية، ولا شرطي المرور، او من خلال بعض المنتسبين الى شرطة المرور.
هذا كان على سبيل المثال وحسب، وإلا هنالك العديد من الامثلة التي ربما يجدها القارئ في جوانب وانحاء عديدة من حياته اليومية، بينما الاخلاق والآداب تكون بمنزلة "المخ" في جسم الانسان الذي يعطي الايعازات الى الاطراف والى الجوارح لتتصرف بهذا الشكل او ذاك، لذا فان صحة وسقم التصرف يرتبط آلياً لا مفر منه، بصحة وسلامة الاخلاق والآداب لدى الفرد والمجتمع.
واذا كنا نريد معرفة السبب في ذلك، ما علينا إلا ان نراجع تراث أهل البيت، عليهم السلام، لنرى كيف أن كل مفردة من منظومة الاخلاق والآداب لها مدخلية في حياة الانسان والمجتمع، وأي خلل فيهما يترك أثره السريع والواضح، ومن ذلك ما جاء في وصية مطولة للامام علي، لابنه الحسن، عليهما السلام، نذكر منها: "الحياء سبب كل جميل، وأوثق العرى التقوى، وأوثق سبب أخذت به سبب بينك وبين الله"، وفي مكان آخر يقول: "لا خير في لذة تعقب ندماً، والعاقل من وعظته التجارب، والهدى يجلو العمى، ولسانك ترجمان عقلك، ومن حسن الجوار تفقد الجار...". وهنالك الكثير الكثير من هذه الحكم والمواعظ التي تغذي المنظومة الاخلاقية وتجعلها حيّة دائماً تمكن صاحبها من اتخاذ الموقف الصحيح في المكان والزمان الصحيحين، والتعامل بأحسن ما يكون مع الآخرين. يقول، عليه السلام، موجهاً خطابه لعامة الناس: "أيها الناس انه من نظر في عيب نفسه شغل عن عيب غيره. ومن رضي برزق الله لم يأسف على ما في يد غيره. ومن سلّ سيف البغي قتل به. ومن حفر لاخيه بئراً وقع فيه. ومن هتك حجاب غيره انكشفت عورات بيته. ومن نسي زلته استعظم زلل غيره. ومن أعجب برأيه ضل. ومن استغنى بعقله زل. ومن تكبّر على الناس ذلّ...".
هذه الومضات جاءت في كتاب "تحف العقول"، وهناك مئات الكتب والمصادر التي تضم أحاديث وروايات عن المعصومين، عليهم السلام، كلها مشحونة بالمعارف والحكم بما يفيد تنظيم الاخلاق والآداب وبما يبعد المجتمع والامة من الفوضى والتجاوزات والمظالم، ولو بنسب معينة، وهذا ما نلحظه بوضوح في كلمات الامام، عليه السلام، فهو يبين لنا كل منقبة وحالة وما يعاكسها او الحالة السلبية التي تظهر بسبب غيابها، وهذا تحديداً ما نشكو منه في عديد بلادنا ومجتمعاتنا.
اضف تعليق