في جلسة صريحة جمعتني معه، حاولتُ أن أفهم السبب الحقيقي لكسله وخموله، فرحتُ أناقشه في أمور عديدة، ومع الوقت بدأتُ أكتشف أنه شبه يائس من الحياة، وأنه ينظر إلى الأشياء والأمور نظرة تشاؤم، ولا يخطر على باله أن معظم الأشياء والمواقف تضم الجيد ونقيضه...
لي صديق وسيم، وجههُ يميل إلى البياض، وعيناه واسعتان، طوله مناسب، لكن وضعه المادي غير جيد، فهو لم يعثر على فرصة عمل مناسبة، كما أن موارده المادية شحيحة، والسبب كما أعتقد شخصيا، يعود إلى حالة تشاؤم كسل غريب يسيطر عليه.
هناك تناقض صارخ بين وسامته وجماله من جهة، وبين كسله وميله للخمول وقلّة الحركة، وكنتُ حين ألتقي به وأراه صامتا يحيط به الحزن، أعرف السبب فورا، فأقول له: طالما أنت متشائم وقليل الحركة لن تحصل على موارد ولا فرصة مناسبة للعمل.
وفي الغالب كنتُ أكرر عليه المثل الذي يقول (البرَكة بالحركة)، وأردد عليه المثل المصري المعروف (الرزق يحب الخفيّة)، وهناك آيات قرآنية تحث الإنسان على السعي (والضرب في الأرض) لكسب الرزق، لكنّ صاحبي هذا من النوع الذي لا تؤثر فيه الكلمات لأن الكسل يسيطر عليه بطريقة غريبة.
في جلسة صريحة جمعتني معه، حاولتُ أن أفهم السبب الحقيقي لكسله وخموله، فرحتُ أناقشه في أمور عديدة، ومع الوقت بدأتُ أكتشف أنه شبه يائس من الحياة، وأنه ينظر إلى الأشياء والأمور نظرة تشاؤم، ولا يخطر على باله أن معظم الأشياء والمواقف تضم الجيد ونقيضه، لكنه لا يرى الجانب الجيد لها.
أي أنه وكما يُقال ينظر ويرى النصف الفارغ من الكأس، ولا يعبأ أو يهتم بالنصف الممتلئ منها، وهكذا هو حاله في نظرته إلى جميع الأشياء، لذلك طبعت حياته حالة تشاؤم وقنوط، مما أدى به إلى كسل وقلة حركة حرمته من الحصول على فرصة مناسبة ومورد مالي جيد، وأطفأت فيه الإحساس الإيجابي.
ليست الموارد وحدها ما تنقصه، إنه يفتقد للشعور بالجمال، ولا يرى جانب الخير في الأشياء والمواقف، فهو مثلا يمتلك دراجة نارية، وجاره يمتلك سيارة، لهذا السبب يشعر بالغبن، لكنه جاره الآخر وهو شاب أيضا لا يمتلك سيارة ولا دراجة نارية، بل عنده دراجة هوائية متهالكة (بايسكل)، لكن صاحبي يرى جاره الذي يمتلك سيارة ولا يرى جاره الذي يمتلك دراجة هوائية قديمة!!
اليوم نقلتُ له هذه الحكاية، عسى أن تؤثر فيه ويغيّر حياته ونظرته للأشياء والمواقف، تقول الحكاية:
جلست الزوجة على مكتب زوجها وأمسكت بقلمه، وكتبت:
في السنة الماضية، أُجرِيتْ لزوجي عملية إزالة المرارة، ولازم الفراش عدة شهور، وبلغ الستين من عمره؛ فترك وظيفته المهمة في دار النشر التي ظل يعمل فيها ثلاثين عاماً، وتحت أوامره الكثير من العمال..
وفي نفس السنة المذكورة توفي والده، ورسب ابننا في بكالوريوس كلية الطب لتعطّله عن الدراسة عدة شهور، بسبب إصابته في حادث سيارة.
وفي نهاية الصفحة كتبت الزوجة: "يا لها من سنة سيئة للغاية!!"
بعد ذلك دخل عليها زوجها يريد أن يجلس على مكتبه لإنجاز عمل كتابي لم يكتمل بعد، ولاحظ شرود زوجته، فاقترب منها، ومن فوق كتفها قرأ ما كتبت!
فترك الغرفة بهدوء، من دون أن يقول لها شيئاً، ولم يعقّب عما كتبته زوجته.. لكنه بعد عدة دقائق عاد وقد أمسك بيده ورقة أخرى، وضعها بهدوء بجوار الورقة التي سبق أن كتبتها زوجته وتركتها فوق مكتبه.
بعد أن أكمل الزوج كتابته على الورقة خرج للتسوّق اليومي المعتاد، عادت زوجته إلى مكتبهِ وتناولت الورقة التي كتبها زوجها، وقرأت فيها ما يلي:
في السنة الماضية.. شُفيتُ من آلام المرارة التي عذّبتني سنوات طويلة وشكرتُ ربي كثيرا... بعد أن بلغت الستين وأنا في تمام الصحة...
وسأتفرغ للكتابة والتأليف بعد أن تم التعاقد معي على نشر أكثر من كتاب مهم..
وعاش والدي حتى بلغ الخامسة والتسعين من غير أن يفقد عقله ولا صحته، وتوفى من غير أن يتألم، بل رحل عن عالمنا بهدوء.
ونجا ابننا من الموت في حادث السيارة، ولم يتعرّض لكسور أو آلام مبرحة، وشفي بغير أية عاهات أو مضاعفات بسبب الحادث.
وختم الزوج عبارته قائلاً:
"يا لها من سنة أكرمنا الله بها، وقد انتهت ونحن في أنمّ الخير".
الفرق بين كتابة الاثنين أعلاه، والحكمة التي يمكن استخلاصها:
نلاحظ أنهما كتبا نفس الأحداث ولكن كل منهما دوَّنها بنظرة مختلفة..
دائماً ننظر إلى ما ينقصنا؛ لذلك لا نحمد الله على نعمه.. وننظر إلى ما سُلِبَ منا ونُركّز عليه.. لذلك نشعر بالضيق والجزع ونُقصِّر في حمد الله على ما أعطانا.
قال تعالى: "وإنّ ربَّكَ لذو فضلٍ على الناسِ ولكنَّ أكثرَهم لا يشكرون".
اضف تعليق