يشكل فعل القراءة في ظل أنظمة الاستبداد تهديدا خطيرا لسلطتها، لذلك تنظر الأجهزة الأمنية والرقابية بريبة وتوجّس لكل شخص يعرفون بأنه قارئ، وغالبا ما تقوم السلطة القمعية بسلسة مداهمات مباغتة، تنتقي فيها بيوت محددة بعد مراقبة أفرادها إذا كانوا يهددون أمن (الدولة) بأفكارهم التي يستقونها...
يشكل فعل القراءة في ظل أنظمة الاستبداد تهديدا خطيرا لسلطتها، لذلك تنظر الأجهزة الأمنية والرقابية بريبة وتوجّس لكل شخص يعرفون بأنه قارئ، وغالبا ما تقوم السلطة القمعية بسلسة مداهمات مباغتة، تنتقي فيها بيوت محددة بعد مراقبة أفرادها إذا كانوا يهددون أمن (الدولة) بأفكارهم التي يستقونها من كتب غير مرغوب بها أو مؤشَّر عليها بالمعادية.
يسرد أحدهم ذكرياته عن جانب من هذه المداهمات، يقول: أتذكّر أن السلطة شنّت حملة مسعورة على الأفكار والكتب المضادة أو التي تراها كذلك، بدأت حملتها بمراقبة ومتابعة ودهم المكتبات التي تبيع وتشتري الكتب في مركز المدينة أو أطرافها، والمطبوعات بمختلف مضامينها وأحجامها، واضطر الكثير من أصحاب المكتبات إلى غلقها، والتحوّل من مهنة بيع الكتب إلى بيع الخضار والفواكه وبعضهم غادر القراءة والأفكار إلى مهن بديلة، كي لا يتعرّض للاعتقال أو المضايقات التي قد تصل حدّ التصفية.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، كانت هناك مداهمات لبيوت منتقاة تضم في إحدى غرفها مكتبة شخصية، والأخيرة تضم كتب تخريبية مناهضة للسلطة، هكذا يبرر المستبدون حملاتهم ضد كل من يجرؤ على قراءة الكتب والأفكار التي لا تدعم السلطة ولا تؤيّدها.
يقول أحد القراء المدمنين، كنتُ أعرف بأنني مراقَب، وأتوقع أن تداهم السلطة بيتنا في أية لحظة، لذلك انتزعت جميع الكتب الملتبسة بنظر السلطة من بين الكتب الأخرى المرصوفة على رفوف الخشب، لم يبق في المكتبة سوى الكتب الخاوية أو الخانعة كما وصفها أحد الأصدقاء، وأخفيت الكتب ذات الأفكار المختلفة في حفرة عميقة حفرتها بنفسي في تربة حديقة البيت، والغريب أنني أخفيت مع الكتب قطعة سلاح ممنوعة.
كانت السلطة تنظر إلى أفكار الكتب التي وضعتُها في أكياس نايلون وأحكمتُ إغلاقها، بنفس نظرتها إلى قطعة السلاح غير المرخّص، وحين دخلوا بيتي ذات مرة بشكل مباغت، فتشوا المكتبة بالتتابع عنوانا بعد آخر، لكنهم لم يعثروا على كتاب مناهض.
لم يكتفوا بتفتيش المكتبة، دخلوا جميع الغرف بما في ذلك الحمام والمطبخ ومحزن الخردة، ثم انصرفوا بعد أن تركوا لي ورقة عند أمي لأنني كنت خارج البيت، وحين وصلتُ بيتنا منتصف الليل، قرأت التعهد بعدم اقتناء أو قراءة أو حمل أو الاحتفاظ بأي كتاب يحمل أفكارا تخريبية، وضعتُ عليه إمضائي وذهبت في اليوم التالي إلى المركز الأمني المختصّ وسلّمتُ التعهد بنفسي، وأمضتُ تعهدا آخر لضمان عدم القراءة!!
أما أنا فكانت القراءة بالنسبة لي حياة من المحال التخلي عنها، هكذا كنت متمسكا بفعل القراءة، لكن أمر المداهمات المباغتة لم يتوقف على تفتيش المكتبات المنزلية، هذه المرة بدأت تشيع أخبار عن وشايات مختلفة المصادر، قادت زمر السلطة إلى التفتيش في حدائق البيوت، يقومون بحفر التربة إلى أعماق تتجاوز المتر، في اليوم التالي مباشرة أخرجتُ الكتب التي دفنتها في الحديقة، واقترحتْ أمي عليَّ أن تشجرَ بها تنورها لتشوي لنا الخبز.
صعدتُ بالكتب التي اشتريتها بدم قلبي، ودفعت فيها أموالا كنت أحتاجها لإطعام أهلي ونفسي، والآن أنا مضطر كي ألقي بها في فوهة التنور بيدي، لا سبيل آخر أمامي، أخرجتُ أكياس النايلون وصعدتُ بها إلى سطح البيت حيث التنور وأمي، وبدأت ألقمُ تنورها بخيرة الكتب وأعظم الأفكار التنويرية الحديثة منها والقديمة.
حين انتهيت من إلقاء جميع الكتب الممنوعة في التنور، انتبذتُ إحدى زوايا السطح مقرفصاً، ورحتُ أنظر لأمي وهي تسكب النفط في فوهة التنور، ثم أشعلتْ ورقةَ دفتر بيضاء وألقت بها في فوهة التنور، بدأتْ تخرج أبخرة بيضاء وسوداء من التنور وفي دقائق اندلعت ألسنة اللهب شاقّة طريقها إلى الأغلى، كنتُ أنظر إلى ما تتقيّأهُ فوهة التنور وأسمع أصوات بكاء وألم وصراخ شديد لشخصيات طالما أعجبتني بجمال وعمق أفكارها وكلامها.
خلال دقائق أخرى تحوّلت تلك الكتب الثمينة ماديا وفكريا إلى رماد، رأيتُ أمي تتنفس الصعداء، وبدأت تستخرج الخبز الناضج بفرح غريب، كيف لأمٍّ تفرح بحرق كتب ابنها، هكذا تساءلتُ في سرّي، ثم أعطيتها العذر، إنها تشعر الآن بالأمان وأن ابنها لم يعد مهدّدا من السلطة، بعد هذه الجريمة (جريمة حرق الكتب) التي ارتكبتُها أنا مرغما وشاركتني بها أمي مرغمة أيضا، ماتت رغبتي بالقراءة، وتحوّل ذهني إلى فراغ أبله مسلوب الإرادة كلّياً.
تحوّلتُ إلى إنسان بلا فكر، بلا إرادة، بلا وعي، بلا هدف وهذا هو المطلوب بالنسبة للسلطة المستبدة، إنهم يفضلون هذا النوع من الناس مسلوبي التفكير والإرادة، لأنهم لن يشكلوا عليهم خطراً يُذكَر، وحين انتهت حفلة حرق الكتب، تركتُ سطح المنزل، بل تركتُ البيت كله خارجا، وعند الباب حين لحقتْ بي أمي رأيتُ دموعها واحمرار عينيها، وسمعتُ كلماتها المتلعثمة، إنها تحاول أن تعتذر لي عمّا فعلتْهُ بكتبي، فقلتُ لها، أنت لا ذنب لك، أنا من ألقى بكتبهِ وأصدقائهِ في فوهة التنور.
والآن أسألكم، هل عشتم أجواء القراءة في ظل الاستبداد؟، هذا السؤال موجَّه لمن عانى من مشكلة السلطة الكابحة للوعي، أو من المضايقات السلطوية ضد قراءة كتب وأفكار معينة مضادّة للسلطة المستبدة، ولكن هل يمكن تحديد ما هو مضاد لنظام مستبد؟؟
لو أننا بحثنا عن إجابة دقيقة لهذا السؤال، فإننا سوف نكتشف بأن كل كلمة وكل جملة وكل فكرة لا تدعم سلطة الاستبداد، هي مضادّة، هكذا تنظر الحكومات المستبدة إلى الكتب وإلى قرّائها، وأكثر ما يرعب هذا النوع من السلطات هو الإنسان القارئ إلا إذا كان ما يقرأه يدور في فلك السلطة ويدعمها، أما الفكر الذي لا يدعم السلطة المستبدة، فهو يقع في كفّة المعادين حتما.
اضف تعليق