هناك كتباً نتصفحها بمتعة ناسين الصفحة التي قرأناها ما أن ننتقل إلى الصفحة التالية. وكتبا نقرأها بخشوع دون أن نجرؤ على الموافقة أو الاعتراض على فحواها. وأخرى لا تعطي سوى معلومات ولا تقبل التعليق. وهناك كتب نحبها بشغف ولوقت طويل، لهذا نردد كل كلمة فيها...
في ظنّي إذا تحوَّلت الكلمات المقروءة من طابع الصمت إلى الصوت، فسوف تصبح حوارا بين شخصين هما (المؤلِّف و القارئ)، وحتى لو بقيت على طابع الصمت، فإن الأفكار التي تحملها وتقدمها للقارئ، سوف تنقلها إلى عقل محاوِر له أفكاره ووجهات نظره، ولديه ما يؤمن به وما ينبذه، لهذا فإن أي نوع من أنواع القراءة، سوف يتحوّل إلى ندّ أو كيان مقابل للقارئ.
لا توجد قراءة تخلو من التحاور بين القارئ والمؤلِّف، وإذا انعدمت هذه الخاصية، سيكون السبب وجود خلل ما، أما أن يكون مصدره القارئ، أو الندّ المقابل وهو الكاتب أو المؤلّف، هناك أناس نجتمع بهم عن طريق القصد أو المصادفة، كأن نكون في حافلة لنقل الركاب أو قطار أو طائرة أو مقهى أو حديقة عامة، هؤلاء حين نقابلهم ونتحاور معهم من أجل تمضية الوقت، أو بدافع الفضول أو الإعجاب، أو لأي سبب آخر، هؤلاء الذين نتحاور معهم عن قصد أو من دونه، يمكن أن يكونوا محاورين رائعين يثيرون رغبتنا بالاستمرار في مناقشتهم ومحاورتهم، وفي نهاية المطاف قد نخرج بحصيلة فكرية أو تجربة تستحق الوقت الذي قتلناه في مبادلتهم الحوار، وقد يحدث العكس، فهناك شخص لا يثير فيكَ رغبة التواصل في الحوار، فربما يكون ساذجاً وأنت تبحث عن الأفكار والمضامين العميقة، وربما يكون شخصا غبيا وأنت مغرم بالأذكياء، وقد لا توجد في كلماته تلك الميزة التي تجعل منه مرغوبا به في الحوار لتفرّد أفكاره وتميزها وعمقها وجرأتها، في هذه الحالة يكون وجوده أو عدمهُ سيان بالنسبة لك، بل في الغالب سوف تقطع الحوار، وتتهرّب منه بذريعة أو أخرى.
يحدث هذا بالضبط إذا طبقنا ذلك على الكتاب أو النص الذي نقرأه، فهذا النص هو الشخص الذي نحاوره، وقد يكون مرغوبا به بالنسبة لنا كقرّاء، وقد نتخلّص منه في اللحظات الأولى لبدء الحوار (القراءة) للأسباب التي دفعتنا للتخلّص من الندّ في قطار السفر أو الطائرة أو المقهى أو الحديقة العامة وسواها.
إنك عندما تقرأ، فأنت في الحقيقة تقوم بفعل الحوار، وأما أن تواصل المحاورة أن تبترها دون تردّد أو مجاملة، الأخيرة ربما تلجأ إليها عندما تحاور شخصا فعليّا في مكان ما، لكن الأمر بالنسبة لحوار القراءة لنص أو كتاب، سوف يكون مختلفا تماما، مع الكتاب أو النص أنت لستَ مجبرا على المجاملة مطلقا، إنك في اللحظة التي تشعر بها بسذاجة النص وأفكاره سوف تفرّ بجلدك تاركا النص أو الكتاب وحتى الكاتب، في حالة من الذهول والخيبة!!، أنا شخصيا جرّبت هذه الحالة مع نصوص حاورتها وأحببتها، وأخرى لم أستطع أكمل صفحتها الأولى بل فشلت في التفاعل مع السطور الأُوَل لها.
في كتاب يوميات القراءة "تأملات قارئ شغوف في عام من القراءة" يقول مؤلِّفه البرتو مانغويل، ترجمة عباس المفرجي، دار المدى: (القراءة عبارة عن محادثة، تماما مثلما يُبتلى المجانين بحوار وهمي يتردد صداه في مكان ما في أذهانهم، فإن القرّاء يتورطون أيضا بحوار مشابه، يستفزهم بصمت من خلال الكلمات التي على الصفحة. في الغالب لا يدوّن القارئ ردود أفعاله، لكن أحيانا تنتاب قارئ ما رغبة بإمساك القلم والتواصل مع هذا الحوار بكتابة الهوامش على النص. هذا التعليق، هذه الهوامش، هذا الكتابة الظل التي ترافق أحيانا كتبنا الأثيرة توسّع من النص المقروء وتنقله إلى زمن آخر، وتجعل من القراءة تجربة مختلفة تضفي واقعية على الأوهام التي يرويها لنا الكتاب، ويريدنا (نحن قرّائه) أن نعيشها).
القارئ ليس مرغما على مواصلة الحوار مع نص لا يثير لديه أفكارا جديدة، أو تخيّلات باهرة، فمن أبسط حقوق القارئ شرط التكافؤ، وأعني بهذا الشرط أن يرتقي النص إلى ذهنية القارئ وتطلعاته ومنحه فسحة من التأملات الواسعة التي تجعل منه إنسانا مختلفا، وتحرّك فيه مشاريع فكرية يأمل بالوصول إليها بمساعدة قراءة هذا الكتاب أو ذاك، فما فائدة أن أقرأ نصا لا يرتقي لأفكاري وتطلعاتي وطموحي، وما فائدة قتل الوقت في حوار أعجف لا أخرج منه بشيء؟؟
ومما يذكره البرتو مانغويل أيضا قوله (هناك كلمات قليلة يمكن أن تكون باعثا لتأملات طويلة)، هذا هو المطلوب من القراءة، تماما مثل المحاوِر الحيوي، وليس الخامل السلبي الذي لا تحصل من محاورته على شيء سوى تمضية وقتكَ بلا طائل، ولهذا قيل أن الطيور على أشكالها تقع، والمحاورون على أشكالهم يقعون أيضا، فالمحاوِر الذكي العميق الطَموح لن يستسيغ المحاوَر أو النص الغبي والعكس يصح، ولكن لابد أن تكون هناك حصيلة لحوار القراءة، من دونها لا تستحق أن نضحي بوقتنا معها، حالها حال كل الأهداف المهمة.
النصوص والكتب أيضا تختلف عن بعضها البعض، فمنها من يفرض علينا صيغة خاصة في التعامل معه، وهذا يتبع جديّة الكتاب، وثرائه الفكري، وتميّزه وامتلائه، ورصانته، أو حيازته لمزايا تفرض نفسها على قرائها، بحيث يجدون فيها ندّاً متكافئا، لا يدفعهم للمخاطرة بتمضية أوقاتهم جزافاً، كذلك يتبع هذه العلاقة ومتانتها بين النص والقارئ الطرف الأخير، ما مؤهلاته، وما أهدافه وغاياته، هل يريد أن يتسلى ويزجي الوقت، أو هو من النوع الجاد الباحث عن أفكار ورؤى متجددة تمنحه فرصة أخرى لتجديد حياته.
هذه العلاقة بين القارئ والمقروء (نصّاً أو كتابا)، يذكرها البرتو مانغويل في كتابه يوميات القراءة فيذكر أن (هناك كتباً نتصفحها بمتعة ناسين الصفحة التي قرأناها ما أن ننتقل إلى الصفحة التالية. وكتبا نقرأها بخشوع دون أن نجرؤ على الموافقة أو الاعتراض على فحواها. وأخرى لا تعطي سوى معلومات ولا تقبل التعليق. وهناك كتب نحبها بشغف ولوقت طويل، لهذا نردد كل كلمة فيها لأننا نعرفها عن ظهر قلب). والجميلة الأخيرة حدثت مع أغلبنا، حين دخلنا عالم القراءة في البدايات، من ينسى مثلا تلك الجملة الأثيرة للنفري (كلّما اتسعت الرؤية، ضاقت العبارة) وكيف كنا ولا زلنا نرددها، أو جملة همنغواي في الشيخ والبحر (يمكن أن يتحطم الإنسان لكنه لا يُهزَم)، أو جملة شكسبير الشهرة في مسرحية يوليوس قيصر (حتى أنت يا بروتس؟ إذاً فلتسقط روما)، والأمثلة كثيرة لا يمكن حصرها.
اضف تعليق