إذا صدر الغضب من أعماق النفس الانسانية يتحول الى انفجار بركاني رهيب لانه مدفوع بنزعات الانتقام والانتصار للذات والحفاظ على المصالح الشخصية من مال او جاه، أو منصب، او امتيازات وعقارات وغيرها، ومن ثمّ فانه يشكل أكبر تهديد لحالة اللاعنف الذي يعد جهاز المناعة للمجتمع والامة من اصابتها بكل انواع التوتر والاضطراب...
معروف عن الغضب أنه حالة نفسية سريعة تولد ردود أفعال إزاء كلمات او مواقف او حركات في المحيط الاجتماعي، ثم لا تلبث طويلاً ان تزول او يخفف صاحبها من حدتها لاسباب عديدة، وفي الوقت ذاته تمثل بشكل لا إرادي أداة قوة لمواجهة التحديات، ربما تكون في أبسط الأمور، كأن يكون سائق سيارة في الطريق ويزاحمه آخر محاولاً اجتيازه وتجاهل وجوده، أو داخل البيت عندما يتكاسل الطفل عن تلبية طلبات الأبوين، وأي نوع من المشاكسة او التقاطع الممكن حصوله في اماكن عدّة، فيجد الانسان الغارق في هذه الحالة نفسه وقد تدرّع بالغضب لمواجهة الطرف المقابل محاولاً إيقافه عند حدّه، وإثبات وجوده وأنه ليس ممن يسهل تجاوزه! ومن ثمّ نشهد مختلف اشكال الافعال العنيفة بدءاً من ضرب الطفل والزوجة داخل البيت، مروراً بالحروب الكلامية في الشارع، والى الصراعات الدموية باستخدام مخلتف اشكال الاسلحة.
وكما هي الحالات والنزعات النفسية عند الانسان تحتاج الى تقويم وتهذيب، فان الغضب كان على طاولة البحث والمتابعة المشددة لئلا يدفع بصاحبه في الاتجاه السلبي وارتكاب الأخطاء الكارثية، فجاءت الافكار والاضاءات لإرشاد الانسان الى أفضل الطرق وأكثرها عملية.
تدريبات أخلاقية
أولى الاسلام حالة الغضب أهمية بالغة في المعالجة والمكافحة ضمن نظامه الاجتماعي وصنع مجتمع منسجم وآمن ومتقدم، ففي ثقافة القرآن الكريم توجيه خاص لمعالجة هذه الحالة بحالة ايجابية معاكسة، وبطريقة ذكية تستبق حالة الانفعال، ففي سورة المؤمنون نقرأ الآية الكريمة: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ}، كما تبين الآية الكريمة من سورة فُصلت، حقيقة التفاوت بين المسلكين، وضرورة الأخذ بزمام المبادرة بدلاً استفحال الغضب: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}، الآية تشير الى مفردة "الدفع"، بما يؤشر الى استراتيجية الدفاع في العلاقات الاجتماعية وليس الهجوم التي هي من افرازات الغضب والانفعال، ليس هذا وحسب، وإنما استثمار مشهد التقاطع في أشد حالاتها (العداوة) لتكون قاعدة لأسمى مرتبة في العلاقات الاجتماعية وهي أن يكون شخصاً ولياً لآخر، وليس فقط أخاً، أو صاحباً، والوليّ، لغوياً بمعنى؛ الخَلَف "قام به"، "القريب"، فهو الشخص الذي يكون سنداً وعضيداً لأخيه، بما ينطوي عليه المعنى من دلالات التماسك والاندماج، ثم تردف الآية الكريمة بمفردة رقيقة؛ "حميم"، وهي من معاني الودّ والحب.
وجديرٌ بنا الاشارة الى أن دعوة السماء لكبح جماح الغضب نزلت على صدر النبي الأكرم في مكة وليس في المدينة، حيث كان يواجه أقسى الضغوطات والتحديات مع المشركين وأعداء الرسالة، وكتب السيرة والتاريخ تبين طبيعة رد فعل النبي الأكرم على اساءات المشركين له، وتكذيبه، ومحاصرته اقتصادياً الى حد التجويع، ثم محاولة قتله، بما يجعلنا أمام النموذج الأكمل والأسمى لطريقة التعامل مع الانفعالات النفسية، على قاعدة {ولكم في رسول الله اسوة حسنة}، ففي المدينة المنورة، وعند تشكيل المجتمع الاسلامي الأول تعلّم المسلمون الأوائل كيفية معالجة الغضب من سيرة حياة نبيهم وهو بين المشركين الذين كانوا في قمة العنف والقسوة، بينما كان، صلى الله عليه وآله، في أسمى حالات اللين والحكمة.
على نفس النهج، سار الأئمة المعصومون والأولياء الصالحون ممن حافظوا على السلم والاستقرار في كيان الأمة بغضهم الطرف عن الاساءة والتكذيب وحتى القتل، بل و صبرهم على الجراح الغائرة فصنعوا للأمة وللمجتمع الاسلامي أفضل حالات السلم والانسجام، ولمزيد من الاطلاع؛ هذه كتب ودراسات وبحوث تملأ المكتبات حول سيرة حياتهم وطريقة تعاملهم مع كل ما يدعو الى الانفعال والغضب، فقد كانوا يغلبون الحلم، والحكمة، والوقار، والعقل، والصبر، وسائر الخصال الحميدة والفضائل على حالة الغضب، حتى أن أمير المؤمنين، عليه السلام، جعل الغضب من صفات غير العاقل: "ستة تختبر بها عقول الناس؛ الحلم عند الغضب، و الصبر عند الرهب، و القصد عند الرغب، و تقوى الله في كل حال و حسن المداراة و قلة المماراة"، وفي حديث آخر في نفس الكتاب "غُرر الحكم و دُرر الكلِم": "إذا تسلط عليك الغضب فاغلبه بالحلم و الوقار".
وقد بحث علماء الأخلاق قديماً وحديثاً في أمر هذه الحالة النفسية ومنشأها، واسبابها، وطرق معالجتها، ومنهم؛ سماحة الفقيه آية الله السيد محمد رضا الشيرازي –طاب ثراه- وفي احدى محاضراته أحكم الربط بين كبح جماح الغضب والتقوى ذات المدخلية في طريقة تعامل الانسان مع محيطه الاجتماعي، وليس فقط "الورع عن محارم الله"، ويستشهد سماحته بأمثلة من الواقع الاجتماعي، وكيف أن فقدان التقوى لحظة واحدة يدفع الأب –مثلاً- أو الأم لأن ينهالا بالضرب على ابنهما الى حد الإعاقة او الموت، ولذا فان سماحته لا يرى التقوى بصورتها المتكاملة والحقيقية في الممارسات العبادية والالتزام بالفرائض، وإنما في حسن السيرة والسلوك داخل وخارج البيت.
معالجات علمية
كتب الكثير من علماء النفس والتربية في العالم عن حالة الغضب وطرق مواجهتها، وعكفت الجامعات على دراسىة "علم تطوير الذات" وما تفرّع منه تحت عنوان: "فن ادارة الغضب"، وهم يسعون "لتحويل مسار الغضب من المسار السلبي الى المسار الايجابي"، ثم الدعوة الى الهدوء، والانبساط، والابتعاد عن كل أشكال الانفعال.
وممن كتب في هذا المجال، المدربة البريطانية في مجال تطوير الذات؛ جيل لندنفيلد، بعناونين: "ادارة الغضب، أبسط الخطوات لمواجهة الاحباط والتهديد"، والآخر: "طرق مختصرة للاحتفاظ بهدوئك"، وقد ارتكز مشروع الكاتبة البريطانية على مبدأ "ادارة الغضب وليس الامتناع عنه كلية"، (لا تغضب- د.عبلة جواد الهرش)، وتؤكد على حقيقة أن "الغضب شيء خطير، لكن عدم الغضب وقت اللزوم قد يكون أكثر خطورة، فمن الطبيعي ان يغضب الانسان عندما يتعرض للظلم او الاهانة او التهديد".
وقد اطلقت الكاتبة برنامجاً لادارة الغضب متكون من اربع مراحل: الإعداد، وتقوية الذات، والتدريب على الاستجابات التلقائية، والاحتفاظ بالهدوء الى الأبد، ومن هذه المراحل تتفرع خطوات وجزئيات في معظمها تتمحور حول التدريب والتقويم للنفس على مواجهة نوبات الغضب المحتملة، يتضمن بعضها جوانب أخلاقية كأن "يلتمس الأعذار للآخرين على أخطائهم، وألا ينظر اليهم نظرة غضب لصدور تلك الاخطاء"، و عدم الاعتداد الزائد بالنفس وتخطئة الآخرين دائماً، وتفهّم الانتقادات الحادة والرد عليها "بطريقة بناءة وحاسمة"، و"أن يكتب دفاعاً قصيراً امام كل انتقاد بحيث لا يفقد المرء هدوءه أثناء دفاعه عن نفسه"، وايضاً؛ "التخفيف من حدّة الكلام"، وهو ما تعاني منه الكثير من المجتمعات التي تعصف بها الازمات النفسية والاجتماعية فتكون لهجة الحديث لغة الخطاب حادّة –في معظم الاحيان- مشحونة بالالفاظ القاسية والصوت العالي، ومقاطعة حديث الطرف المقابل.
وبالنظر في المسارين لمواجهة حالة الغضب؛ المسار الديني والاخلاقي، والمسار العلمي، نجد ثمة مشتركاً في تفهّم الغضب كحالة نفسية من طباع الانسان، فليست دعوة لاقتلاع الغضب من النفس ومحوها نهائياً، وأن يكون الانسان في حالة هدوء وسكينة في كل الاحوال، إنما المطلوب الإدارة والتقويم، وإلا فان اتخاذ المواقف الحازمة إزاء قضايا انسانية عادلة تتطلب أقصى درجات الغضب والاستنكار، ونفس الامر بالنسبة لقضايا فاصلة بين الحق والباطل، يكون فيها الغضب ليس استجابة للانفعال النفسي، وإنما خدمة للقضايا الكبرى، ولا أروع من مشهد المبارزة بين أمير المؤمنين وعمرو بن ودّ العامري في معركة الخندق، حيث وقف الجيشان وقد حبسوا انفاسهم، كما توقف الزمن امام لحظة حاسمة؛ إما النصر للإسلام، او الهزيمة أمام المشركين، فسقط العامري، ذلك الرجل المعروف بشدة بأسه وأنه "يعادل ألف مقاتل"، أمام أمير المؤمنين، وصار بين يديه جريحاً، والمسلمين ينتظرون حزّ رأسه، ولكن فجأة نهض الامام عنه و راح يتمشى خطوات ثم عاد واحتزّ رأسه وجاء به الى النبي الأكرم، ولدى سؤال المسلمين عن سبب نهوضه ومشيته خطوات قبل قتل العامري، قال "اساء إليّ –مضمون الرواية- فغضبت، فاردت ان يكون قتله غضباً لله وليس لنفسي".
اذا صدر الغضب من أعماق النفس الانسانية يتحول الى انفجار بركاني رهيب لانه مدفوع بنزعات الانتقام والانتصار للذات والحفاظ على المصالح الشخصية من مال او جاه، أو منصب، او امتيازات وعقارات وغيرها، ومن ثمّ فانه يشكل أكبر تهديد لحالة اللاعنف الذي يعد جهاز المناعة للمجتمع والامة من اصابتها بكل انواع التوتر والاضطراب.
اضف تعليق