تحتاج المجتمعات المتأخرة إلى ثقافة واضحة المعالم، مؤثرة، سهلة الاستيعاب، تبتعد عن الوعظية المفرطة القائمة على التنظير أكثر من الفعل، بالنتيجة نحن نحتاج إلى أناس مثقفين في سلوكهم، وأعمالهم، وأفعالهم، ونشاطاتهم المادية، أي أنهم أناس يتمسكون بالقيم النبيلة، ويطبقون فحواها ومعناها بشكل فعلي في علاقاتهم ومخرجاتهم المختلفة...
من هو الإنسان المثقف، وهل نحن بحاجة إلى المثقف المنظِّر، أم المثقف العملي الذي تظهر ثقافته في سلوكه، وأيٌّ منهما يساعد المجتمع على أن يكون مثقفاً؟
يرى بعضهم بالتصريح أو التلميح، أنَّ الثقافة تُحصَر بإنتاج الكتابة الإبداعية، والمثقف هو كل من يكتب قصيدة، أو قصة، أو رواية، أو مسرحية، أو نقدا أدبيا، أو أفكارا فلسفية، لكن الثقافة ليست كذلك، ولا يمكن حصرها بهذا النوع من الكتابة أو الأفكار، لأن الثقافة خليط من التنظير والتطبيق، بل يُفضَّل أن يكون الإنسان مثقفا في التطبيق بحسب (غرامشي)، فيما لو انعدمت قدرته على التنظير.
من المتوقع أنك لاحظت إنساناً متعلما، بمعنى انه حاصل على شهادة عليا، لكنه قد يفتقر للعمق الثقافي، حيث يتضح هذا في طبيعة سلوكه وأفكاره وعلاقاته، كذلك ربما صادفك إنسان لم يحصل على فرصة التعليم الجيدة، لكنه يبدو مكتنزا من الناحية الثقافية، ويبدو للجميع ذا فكر إنساني متوهّج بالقيم الراقية، واستنادا إلى هذا العمق الثقافي الذي يتحلى به، ستجد انه مكتمل الصفات والسجايا في جانبيّ السلوك والتفكير.
كذلك لابد أننا لاحظنا أناسا يدّعون الثقافة، ويتبجحون بالإطلاع الواسع على العلوم والثقافات، ويتظاهرون باكتسابهم للمعرفة والتجارب المتنوعة، لكن واقع الحال يقول غير ذلك، بمعنى أن الثقافة ليست إدّعاءً، إنما هي انعكاس مباشر يظهر في طبيعة سلوك الإنسان وتعامله مع الآخرين.
المثقّف التنظيري والتطبيقي
يُضاف ذلك إلى طريقة التفكير ونتائجه التي تأتي كنتيجة لعمق ثقافته ومعارفه، واكتسابه الفعلي للثقافة من حيث العمق الإنساني لها، وليس الثقافة السطحية التي لا تدخل إلى عمق الإنسان، وتفشل في تقويم سلوكه وطبيعة تفاعله مع المحيط الأقرب إليه.
عن هذا الأمر يرى العارفون والمطلعون والمعنيون بالثقافة من حيث تأثيرها ونتائجها، أنها – الثقافة- ينبغي أن تُسهم بقوة في عمليات التغيير الذاتي والمجتمعي في الوقت نفسه، أي أنه إذا لم تُسهم الثقافة في تغيير الفرد والمجتمع، فإنها سوف تكون ناقصة حتما، أو تمضي في الطريق الخاطئ، أو أنها تنحو إلى الشكلية والسطحية، وتبتعد عن التأثير المباشر على طبيعة تفكير الناس والقيم التي يتمسكون بها ويعتمدونها في تنظيم علاقاتهم.
الثقافة الناجحة تتحقق وفق شرط القدرة على تغيير المجتمع، وتنقله من عادات متهرئة إلى عادات متماسكة، تجعل من المحيط الاجتماعي منسجما متكافلا متعاونا، يشعر أفراده بعضهم ببعض، ويكون الجميع على استعداد تام لنكران الذات، وإبداء التضحية والإيثار تجاه الآخرين.
ولعل حجر الزاوية في هذه القيم هي الشعور المتبادَل بين الناس، فيما يتعلق بالحقوق وأهمية الحفاظ على حدودها، تلك الحدود التي يجب أن تكون مُصانة ومحمية من الانتهاك، بعيداً عن أية مبررات أو مسوّغات قد يتحجج بها بعضهم كي يسيء للآخر.
كيف نقطف ثمار التراكم الثقافي؟
إذاً الثقافة هي مجموعة الأفكار والمضامين التي تنتج قيما يمكنها صنع فرد ومجتمع متعاون، يتسم بالفكر العميق والجوهر الفاعل الذي له القدرة على التأثير المباشر على الإنسان، فيقوده نحو التغيير الأفضل، من خلال الاستثمار الجيد للتراكم الثقافي النوعي، لينعكس هذا التغيير ليس على الفرد فحسب، إنما تظهر النتائج كمحصلة تغيير جيد في المجتمع كله، وهذا لن يتحقق ما لم تتوافر المستلزمات والمتطلبات الفكرية والعملية للتغيير الفكري والاجتماعي.
لذا لا يمكن أن نطلق على الثقافة هذا المفهوم الفاعل والكبير، ما لم يكتسب الفعل الثقافي قوة التأثير في تحسين حياة الإنسان، ومن البديهي أن العمق الثقافي للفرد، سوف ينعكس على المحيط الذي ينتمي إليه، أو يتحرك فيه، بمعنى أن الإنسان الذي يمتلك العمق الثقافي الجيد، لابد أن يكون ذا تأثير جليّ على محيطه العائلي او العملي او المدرسي أو سواه.
من هذه الزاوية تحديدا تنطلق كتابات ومطالبات العلماء المعنيون، والفلاسفة والمصلحون، والتي تنادي بأهمية اكتساب العمق الثقافي الاستراتيجي، وليس السطحي أو التقليدي أو السريع الطائش، أو ذلك الفكر الهزيل الذي يفتقر للجوهر، مما يجعل من الثقافة غير مؤثرة، ولا تمتلك القدرة على دفع عجلة التقدم والتطور الاجتماعي قيد أنملة، والسبب هو هزال الثقافة وتقليدها للثقافات الأخرى، أو وقوعها فريسة للاختراق الثقافي الوافد.
العزل بين ثقافة سطحية وأخرى عميقة، باتت من مهمة النخب المسؤولة، لكن ذلك لا يمنع الإنسان العادي عن النهوض بدوره في تثقيف نفسه، وفي مهمة الفرز بين السطحي والراكز من القيم والأفكار، ونظرا للتقدم السريع الذي يتميز به عصرنا الراهن، فإن الثقافة الجوهرية العميقة، أصبحت من اشتراطات المضيّ قُدُما من اجل مواكبة المستجدات المعاصرة، فمن لا يعبأ بما يجري حوله من تطورات، سوف يكون معزولا ومتأخرا عن الآخرين.
وحتى لا يبقى الفرد والمجتمع في آخر الركب، لأننا نلاحظ المجتمعات المتأخرة تعيش في وادٍ، والعالم المتقدم يعيش في واد آخر، والسبب الأكيد كما هو واضح، قصور الثقافة وعجزها في المجتمعات المتأخرة، وافتقار العمل الثقافي للعمق وميوله نحو السطحية، فضلا عن غياب التخطيط الاستراتيجي لنشر الثقافة في المجتمع، في حين أن المهمة الكبرى تتركز على جعل الجميع ينظرون إلى الثقافة ومنتجاتها حاجة لا تقل عن احتياجاتهم المادية.
الخلاصة تحتاج المجتمعات المتأخرة إلى ثقافة واضحة المعالم، مؤثرة، سهلة الاستيعاب، تبتعد عن الوعظية المفرطة القائمة على التنظير أكثر من الفعل، بالنتيجة نحن نحتاج إلى أناس مثقفين في سلوكهم، وأعمالهم، وأفعالهم، ونشاطاتهم المادية، أي أنهم أناس يتمسكون بالقيم النبيلة، ويطبقون فحواها ومعناها بشكل فعلي في علاقاتهم ومخرجاتهم المختلفة.
اضف تعليق